ضعيفاً وغريباً وجد نفسه الإنسان في عالم مدهشٍ وموحش، كان عليه أن يكتشف ذاته وما حوله كي يحمي وجوده وبقاءه واستمراره، وكي يحلّ ألغازاً مستعصية، ويفسّر ويفهم ويجيب عن أسئلة تبدو له أسراراً غامضة ومبهمة.
بذات الحجر الذي قاده إلهامه إلى تطويعه واستخدامه مادّةً للدفاع عن ذاته المهدّدة بالفناء، ووسيلة لتهيئة مكانه وطعامه، حفر رسومه الأولى على جدران الكهوف، وشخبط حروفه البدائية الغامضة مصوّراً ما يحيط به من كائنات وظواهر وأخطار، ومعبراً عما فهمه من عالمه المتمرّد على الفهم، ومترجماً لكثيرٍ مما يكتظّ به من أحاسيس ومشاعر ورغبات ومشاهدات..
لقد شكلت خطوط الإنسان الأول ورسوماته، وما تزال، مادّة عظيمة مبهرة كان لها أثرها العميق والأهم في قراءة تاريخ الطبيعة والحياة والإنسان، لكنّ ما هو أكثر إبهاراً أنّ هذه التصاوير والكتابات قدّمت درساً أوّل في أهمية الإبداع الفني والأدبي لفهم الذات والواقع وتحليلهما والتعبير عنهما، واكتشاف الجمال والقبح والخير والشرّ فيهما، كما أنها أوجدت وثبتت قاعدة أولى للبشرية مفادها: إنّ الصورة الأولى للوجود كما هو، وكما ينبغي عليه أن يكون يتمّ تشكيلها، بدايةً، في العقل والمخيلة، كما أنّ التغيير يبدأ في المخيّلة والعقل.
مع تلك الأهمية الجليلة للأدب في رسم الواقع وتحليل علاقاته وأبنيته، وفي إمكانيّة خلق واقعٍ جديد، فإنّ ثمّة ما يتهدّد العمارة الإبداعية الأدبية والفنية بالسقوط والاندثار في وحل التجاهل والنسيان، أمام هذا التنميط لثقافة الإنسان، والهجوم على الثقافات المتأصلة في وجدان الشعوب، يساعد هؤلاء، الذين يحاولون قولبة العالم وتسفيهه وتتفيهه، تقانات وإعلام ومؤسسات ضخمة، وبشرٌ كثيرون جاهلون أو مجهّلون يتبنّون عناوين مواربة وشعارات مضللة.
كائنات استهلاكية خاوية ومتبلدة، جشعة، رعناء، متورمة، متقوقعة يغلفها البؤس، تلهث خلف غول أسطوريّ تسميه الحضارة كيما تتلقف بأطراف مرتعشة زادها البائس، وتحظى بما يخلّفه من فضلات التقنية، هذا ما آلت إليه حالنا. باسم الحداثة نقتلع الغابات وندمّر حقول الجوريّ والبنفسج لنزرع الخشخاش والفطور، ندير ظهورنا للذرى المسكونة بالضوء كيما نخوض في وحل الزيف ونحرث في القيعان والمستنقعات.
الحداثة في الأدب ابتداع رؤى جديدة أكثر ملائمة لعلاقة الإنسان بالواقع وتعقيداته، وابتكار علاقات لغوية قادرة على الغوص في النفس البشرية بما يمكنها من استنشاق مزيد من أوكسجين الحياة المشبع بالجمال والحبّ، وطرح أسئلة أكثر تعقيداً ومحاولة الإجابة عنها للوصول إلى تساؤلات أكثر جدوى بما يخصّ الغايات والمثل والأهداف، الحداثة خلق لواقع ممكن أرقى وأسمى وأقرب لحقيقة الإنسان المغيّبة، بل خلق حياة يمكن عيشها والاستمتاع بمفاتنها دون منغصات تفرضها احتياجات الحواس غير القابلة للتحقق.
الحداثة ليست في التغريب والابتعاد عن ينابيع التكوين الأول، كما إنها ليست قطيعة مع القديم والعيش في بيئة منبتة مؤقتة، سيحتاج النهر إلى تجديد ضفافه وتمتينها، وإلى تنظيف قاعه من الطمي والأوشاب، ومما يخلفه العابرون من صخور وبقايا مراكب متكسرة وتجارب فاشلة، سيحتاج النهر إلى روافد جديدة تجعل التدفق أغزر وأقوى، وإلى سبّاحين وغوّاصين يشهقون من الدهشة.
الحداثة لا تصنعها شعريّة لحظيّة متوهّمة لحدث عاديّ وتفاصيل يوميّة متكررة، دونما اكتراث، وربما باستهتار مقصود، بالنواحي الفنية والبلاغية والرؤيوية، كما أنها ليست تمترساً واصطفافاً عصبوياً، دافعه الخوف من المستقبل ومما يمكن أن يحمله كل مستحدث، لأنماط تقليدية يتشبث أصحابها بعمود ما زال منصوباً في العراء دون رداء تصويريّ أو بلاغيّ أو رؤيؤي، يعيدون إنتاج ذات السياقات اللغوية في جمل أشبه ما تكون بالشعارات الشعبوية المكرورة والمستنزفة.
الحداثة فكر ورؤية ومنهج في التفكير والعمل، يحضّ على الانطلاق في فضاءٍ لا متناه من ممكنات الإبداع، والمضيّ في متوالية مفتوحة من الاحتمالات التي تتيحها كيمياء اللغة وفرضيات التجريب. وسوى الإرادة لا يوجد ما يعيق جهد المبدع للعثور على منتج جديد وصيغ مبتكرة، ومعادلات يمكن أن تأخذ دورها في المساهمة في فعل التغيير.
الحداثة حرية والإبداع حرية وكذلك الرأي والفكر والمعتقد، واختيارُ الطريق إلى ما ينسجم ورؤيتنا في الجمال وملامسة كينونة الإنسان والأشياء ممارسةٌ للحرية في أبسط تعبيراتها. لن يصادف المبدع على أرضه الصلبة وأمام آفاقه اللانهائية المفتوحة ما يمنعه من رؤية طريقٍ بكر تصعد به إلى قطف أحلامه من شجرة الحياة الباسقة، ونثرها حروفاً وألواناً في رحاب عوالمه البيضاء.
إنّ المتتبع للحركة الأدبية سيلحظ أنّ القبح الآن سيّد الموقف على جميع الأصعدة وفي جميع الميادين، لم تعد قادرة على وقف التقهقر والانحدار أيادٍ قليلة تسند ما تبقى من أطلال الإبداع في عالمٍ يبتلع ذاته، فالقيامة بدأت والخراب أصبح أكثر من مجرّد كرات طينية تتدحرج على صدر المنجز الإنسانيّ الهشّ، لقد بات سيولاً جارفة تقتلع جذور الروح وأشجاره المشبعة بالخضرة والندى، وتنزع القشرة الرقيقة التي تستر عري الحياة البشرية وقسوتها المرعبة. فهل حقاً أن لا شيء يوقف طوفان الكراهية والرغبة في قتل كلّ ما هو غائيّ وحقيقي أصيل؟!