تنبش أشلاء الفقراء لتعدم ما بقي من بصيص أرواح عنيدة، تحثو رماد البلاد بحثاً عن حبّة حنطة - قد تُنبتُ رغيفًا لجائعٍ غدًا.
ونحنُ نبحثُ عن صلاح الدين منذُ قرونٍ في ذاكرتنا الجمعيّة، وهو يرقد أسيراً محاصراً في زنازين الجحودِ والعبثِ والعتهِ الطائفي في الشام، لعلّهُ يزيل الضباب عن طموحنا الإنساني الأصيل، ويقطع يد هذه العلوج عن العبث في مقدرات الشعوب، ليحرّم عليها خيانات البلاد والاستشهاد في سبيل الطاغوت، وينزع عنها دور إعطاء سلطة القوة لكل طاغية، ويعيد ترتيب أولوياتها لتعودَ حياضاً وعوناً للشعوب، ولا تساندَ فرعون علينا.
كلّنا نجحنا في التهرّب من مسؤولياتنا الأخلاقيّة والوطنية بذرائع شخصيّة واهية.
كلنا نجحنا في الهروب وتركنا الجسر والنهر، الحقل والبيدر والأطفال والنساء وحدهم بمواجهة البربرية التي لن تُبقي حبة قمحٍ أو قطرة ماء أو فيءٍ ودود، لنهنأ بحيواتنا الباردة وسياحة اللجوءِ التسوّلية بلا كرامة وقيمة وهوية.
نجحنا في اجتراح قواميس شتائمٍ وتخوينٍ ما خطرت في بال بشر، ولا نجرؤَ على الانتظام بعمل جماعيٍ وطنيٍ إنساني خلّاق بعيدًا عن النرجسيّة والأنا التافهة، لأن العمل الجماعي وروح الفريق ستكشف بسهولة عن نتانةِ مستنقع عللنا النفسية والاجتماعية الذي تشرّبته عقولنا تحت سلطة البعث الطائفي اللاوطنية، وتميط اللثام عن زمرة أوباش تصرخ بالثقافة والمعرفة والأدب، وكل ما لديها لم يكن سوى (قصّ ولصق) عن صفحات الإنترنت السائبة، والمال (الداشر) علّم معتوهي النرجسية الحرام.
لنتأمّل: كل الحركات الدينيّة وأشباه الأحزاب السياسيّة وزاعمي التفكير التنويري التثويري اليساري العتيد تتبجّح وتثغو بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وحقوق المرأة والطفل وكرامة الأوطان، فيما الجميع يلهثون للتمسّك بما حازوا عليه من غنيمة دم الثوار والأبرياء.
رئيس الحزب وهو حتمًا مؤسسه (المرشد العام- مؤسس التيّار-الموقع الفكري والصحافي والأدبي) لا يقبلون بالمركز الثاني أو الأخير، بل يجب أن يتصدّر ولا تتم إزاحته إلّا بفأسٍ بتّار، هو متحفّزٌ وجاهز ويثور كبؤرة نتنة فقأتها باعتراضٍ أو مخالفة رأي أو تنبيه فيحظرك، بعد أن ينضح بما في وعائهِ، وتنال من الشتائم والتزوير والافتراء ما يخجل عن تداولهِ الأعداء فيما بينهم.
يغمزون بوقاحةٍ وعهرٍ، سرًّا وعلانية برموز ثورتنا البسطاء، لخوفهم الشديد من تعريتهم عبر المقارنة البسيطة، وهم أصلًا كانوا عراة ولكن مرايا الأعداء التي يستعملون خدّاعة، تصنع من الجرذِ الوضيعِ المُختبئِ في بؤرتهِ أسدًا هصورًا، ومن الأحمقِ المعتوه مفكراً متنوّراً، كلما طعن بثقافته الأم وتجرأ على إرثهِ الحضاري التليد!؟
هذه أشدُّ ويلاتنا وطأة لأن الجميع مهتمٌّ بالسلطة والتصنّم والتأليه أكثر من أوباش الاستبداد الذين ثُرنا عليهم لنقتلعهم من جذورهم!؟
الجميع يعشق السلطة والمال والنساء والأضواء والخمر والسفر وأصبغة الشعر والثياب الأنيقة المستعارة، ويتملّق الغرباء ويتمسّح بهم ككلبٍ يبحث عن سيّدٍ جديد ليظهروا هم كبدلاء، وليس للنهوض بقضية الإنسان والوطن. ولو دعا داعٍ اليوم أو غداً لعمل وطني جامعٍ لوجدت كل الأوباش الملوثين يتزاحمون للمشاركة والإدلاءِ بأحذيتهم الموحلة في جفنة الدمِ المهدور بسببهم.
الكثير جداً من الشرفاء: لا زلنا نُصاحب الحلم، نُسامرهُ كلما اشتدّت حلكة الواقع وارتفع منسوب الخراب الاجتماعي، نخشى أن نهمس أن ثورتنا بخيرٍ رغم كل شيءٍ، فيخشى المتهافتون دوام أملنا وطموحنا فيثيروا الغبار في معاولهم للهدم ونكئِ الجراح، ليستمروا برضاعةِ مغانمهم الصغير المُدمّاة، فيتخلّد بؤسنا، وبؤسهم لو يعلمون.
نتأمل خيباتنا المتناسلة، نتكئ على عزلتنا والحصار ووحشة الطريق وتزاحم الأعداء، نداعب عقارب القهر وأفاعي الأحزان الفائضة، لنتأمّل ونلملم شُعثنا المبعثر ونبدأ بخطوة سديدة حتى ولو كانت ضئيلة.
أما أولئكَ الذين يرددون في أنفسهم: (لا قدرانةِ فلّ، ولا قدرانة أبقى) فهم الفلول: الخائبونَ الخاسرون.
محمد صالح عويد
كاتب سوري