ثمّة جديد يتخلّق


في التحولات الكبرى ستبدو الرؤية غائمة ومشوشة تكتنفها التناقضات، وتكثر فيها الأسئلة وتتعدّد الرؤى، ثمّة انفجار مفتوح على احتمالات لا نهاية لها، ثقب أسود يبتلع أقمارنا الآفلة وتصوراتنا الآيلة للسقوط، وثمّة واقع جديد يتخلّق، أرض بكر تعصف بها رياح الخوف والفجيعة والأمل، لكنها سرعان ما تبدأ الحقائق بالتكشّف وتنجلي الغشاوة، سنكتشف هول ما كنّا نجهله وفداحة فقرنا بمعرفة أنفسنا وبالآخر، سنكتشف مساحة الكذب والوهم الذي عشناه، والخراب الهائل في بنيتنا الروحية والنفسية والقيمية، وسنكتشف أنّنا لم نغادر كهوفنا الحجرية، وقلاعنا الطينية منذ قرون مديدة. ستختلّ لدينا إن لم نقل تتزلزل مفاهيم كثيرة عن الوطن والهوية والمواطنة والقيم والإنسان والماهيّة، وعن الشعر والفنّ ووظائفهما أيضاً.

اكتشافاتك وإدراكاتك هي ساحة ملعبك الملتهبة العاجّة، فهل عليك أن تدقّ طبول الحرب على أرض لغتك، أن تعيد إنتاج مأساتك بما تحفل به من فوضى وكراهية وأشلاء ودمار؟، أم ينبغي لك أن تبتعد بالقدر الذي يسمح لك أن تمارس حرية الفعل الخلاّق بما يليق ببناء حلمك على هذه الأرض، وأن تضع في تربتها بذور المعنى الذي طالما راودته، معنى أن تكون إنساناً وفقط.

دائماً ما يطرح السؤال حول وظائف الآداب والفنون عامّة والشعر بخاصّة، وأدوارها ومهامها في حياة الإنسان، وفي علاقتها مع قضاياه المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة وغيرها ممّا لها صلة بمتطلباته وبشؤون حياته اليوميّة. 

وتبدو مشروعيّة السؤال وطبيعيته حين نعقد مثلاً مقارنة بسيطة في الشكل والمضمون بين قصيدتين تنتميان لزمنين متباعدين وثقافتين مختلفتين، في الماضي البعيد كانت القصيدة في أغلبها الأعمّ تتسم بالوضوح الشديد واللغة الصارمة والتعابير الدقيقة، تتوجه إلى الغرض الذي تسعى إليه ضمن بحرٍ محدّد وقوالب شبه ثابتة كأن تبدأ بالوقوف على الأطلال ثمّ تلج موضوعها المتمثّل بالوصف أو المديح أو سوى ذلك من أغراض الشعر المعروفة. القصيدة الحديثة، حتى الكلاسيكي منها، تعددت أغراضها وتعقدت واختلطت في عمقها القضايا التي تتناولها، وجنحت باتجاه الحداثة وتخلّت عن كثير من وضوحها لصالح الجوانب الفنية والتقنية، باختصار يمكن القول أنّ الإبداع ابن زمنه وصورة عن إنسان هذا الزمن بكل ما يكتنفه ويحيط به.

هل مهمة الفنان والمبدع هي في تجسيد المعاناة وترسيخ السائد وفي إعادة إنتاج الفجيعة، أم إنّ وظيفة الفنّ الحقيقية تكمن في استكناه الواقع وكشف مسببات الألم وفي رسم البديل الأصلح وتقديمه كوجهة نظرْ...؟؟

وبصياغة أخرى هل يمكن الحديث عن أدوار استشرافية وتربوية وتغييرية جمالية وإنسانية وهل يمكن للفنون أن تستبدل القيم السائدة بقيم مستحدثة أم إنّ المهمة الأساسية لها في تعزيز ما هو موجود وتكريس وجوده وهيمنته...؟؟

وفي معرض الحديث عن الإبداع الفنّي والأدبيّ في ثورتنا السورية أجد أنّ الإبداع أحد الميادين التي حدثت فيها إرهاصات الثورة، وبات السؤال حول الكيفية التي يمكن من خلالها أن تكون الآداب والفنون فعلاً ثورياً تغييرياً يفرض لغته، ويسمو بالروح الإنسانية والأخلاقية، ويساهم في بلورة الرؤى والأحلام بدلا من أن تتحول إلى مجرّد انعكاس أو صدى لما يحدث في الميادين والشوارع وساحات العمل المدني والسياسي، أو في أحسن الأحوال مجرد أداة للتحريض وشحذ الهمم إن لم نقل دعوة للاصطفافات ما قبل الوطنية.

لقد حدث تطوّر بنيوي في أشكال الفنون والآداب ومضامينها، وفي وظائفها، وفي النظر إلى مهامها وغاياتها بمنطق من يسعى للحياة المعاصرة بكل تجلياتها، وبتعقيداتها الراهنة، ولا بدّ من الحفر عميقاً في اللغة، وفي الثقافة والفلسفة والفكر لاكتشاف ما يعيد للإبداع جذوته المتقدة، ولا بدّ من الإيمان والثقة بنصاعة المستقبل للتمسّك بأهداب الحلم، ولا بدّ من الحرية للوصول إلى الجمال والقيم العليا وإلى كل ما هو إنسانيّ.

لا حدود للمخيلة وليس من سقفٍ للطموح البشريّ، ولا معنى للإبداع، ولن يخرج من طور التلقين الجامد إلى التحريض الجماليّ والمعرفيّ، من دون أن يمتلك المتلقي حرية السؤال والتقصّي، وأن يقبض بحواسه المطلقة على بغيته، أن يمارس شهوة القول في لوحة يشكلها بريشة مخيلته، وأن يؤوّل الغامض الشفيف بما يشبع توقه للدهشة، الوضوح العاري يقتل الخيال ويقيّد المطلق ويثبّط الإبداع، ثمّ أنه لا مجال للتأويل في معرض الكشف.

 

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp