خيالٌ كأنه الواقع ما يشبه القصة


أرهقت الكتابةُ على الحاسوب ذهنَه وجسدَه، كان يكتب نصاً أدبياً يمتزج فيه الخيال بالواقع. 

أغمض عينيه للحظة أو لحظتين ليستريح قليلاً، فرأى نفسه في عالم آخر.

دخل إحدى السفارات، طلب تصريحاً للسفر إلى مملكة الضباب، 

امتنعوا في البداية، وحين أعلمهم أن له أقارب يودّهم ويودّونه ويعزّهم ويعزّونه ويشتاق لهم ويشتاقون إليه، عندئذ وافقوا عن طيب خاطر. 

في أحد مطارات العالم الثالث، غيّمت الدنيا وأبرقت وأرعدت فوق رأسه، فجواز سفره صار ينتقل من يد إلى أخرى، ويدخل مكتباً ويخرج من غيره، والنظرات الاتهاميّة تقيس قامته من الأعلى إلى الأسفل وبالعكس. 

توقف تفكيره المنعش بمن هو مسافر إليهم، وحلّ مكانه هاجس مخيف جرى على الشكل التالي:

 يتوجه نحوه رجل، كأنه ليس من فصيلة البشر، وإنما من فصيلة الوحوش المفترسة، وهو يحمل قيداً حديدياً، هجم عليه، وكبّل يديه الاثنتين، وانهال عليه بالصفعات والشتائم، ثم اقتاده إلى حيث لا يدري. 

في هذه اللحظة من التخيّل المخيف، أفاق على صوتٍ يناديه، توجّه نحو مصدر الصوت، سلّمه أحدهم جواز سفره، ورشقه بنظرات شرسة، فأدار له ظهره، وتوجه نحو الطائرة، وهو يتنفس الصعداء. 

في مطار هيثرو سأله أحدهم:

  •  إلى أين يا مُيَسّر.!؟..

  • إلى الغالين على نفسي..

  •  هل أنت عاشق.!؟..

  •  نعم.. ولكن ليس بالمعنى الذي تلمّح إليه..

  •  well.. أين يقيم غواليك.!؟..

  •  لا أدري.. 

  •  في أية مدينة يسكنون.!؟.

  •  لا أدري..

  • طيب.. هل يعلمون أنك قادم إليهم.!؟.

  •  لا.. تركتُها مفاجأة لهم. 

  • هل معك رقم هاتفهم.!؟..

  • لا..

تعجب السائل واستغرب من هذه الحالة الإنسانية الفريدة، ثم مضى في حال سبيله، وترك القادم من بلاد الشرق وحيداً لا يدري ماذا يفعل، ولا إلى أين يتوجّه. 

همس قلبه قائلاً: لا تقلق.. تمسّك بي واتبعني.. 

  •  إلى أين.!؟..

  •   لا تسأل.. فقط اتبعني.. أليس قلب المحب دليلُه.!؟.

ظل قلبه يقوده من مقاطعة إلى مقاطعة، ومن مدينة إلى أخرى، حتى حطّ في إحدى المدن، وبدأ ينتقل من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي، وصاحب القلب يسير وراء قلبه باطمئنان، لأنه يدرك أنه في النهاية سوف يوصله إلى الفردوس الموعود. 

وأخيراً وصل القلب إلى ما يشبه بقعة من الجنة، وتوجه إلى مدخل عريض مكشوف يؤدي إلى ممر طويل، وكل ما فيه وما حوله ورود في ورود، وهي منسّقة ومرتّبة بشكل لم يرَ مثيلاً لها من قبل. 

سار القلب، وهو يتبعه، والنسائم العطرة تنبعث حوله وترفرف، وكأنها تحيّيه وترحب به، وكل روضة من ذلك الممر كانت تُّقدم له زهرة لا أحلى ولا أجمل، وهكذا حتى وصلا إلى باب دارٍ ليست كباقي الدور، بناء متميز وسط غابة من البياض الثلجي، فبدت له تلك الدار كقصيدة عاطفية تلمّح ولا تصرّح.

أمام الباب خفق القلب واضطرب، وقال لصاحبه: هذه هي دار أحبابك،فاطْرُقِ الباب.

وهنا تذكّر عدّة أبيات من إحدى قصائده يقول فيها:  

قـــــطــــــفَ الــوالِــــــهُ أحــلـــى بــاقـــــةٍ

هي أغـلى مـن كـنـوز الأرضِ نَـقْـــدا

ودَنَــــا مــرتـبــكـــــــاً مـــــن بــابــهــــــــا

وأمـام الـبـابِ كـالـطــفـــلِ اســتـعـــــدّا

طَــرْقَــــةٌ خـجـلــى، وأخـــرى مـثـلُهــــا

ولُـحَـيْـظَـــاتٌ تـمُــــدُّ الــدهــــرَ مَـــــــدّا

فُـتِــــحَ الـبـــابُ أخــيـــــراً ، فــبَــــــدَتْ

آيـــةً فــي حسنهــــا وجـهـــــــاً وقَـــــــدّا

وأخيراً، فتحت صاحبة الدار الباب بهدوء ولطف، وكانت لحظة زمنية نادرة، ولن تتكرر إلا في الأحلام، فها هو، وها هي الآن يتقابلان وجهاً لوجه، وليس عبر الاستحضار عن بُعد، وما أروعه من لقاء بعد تباعد المسافات وانقطاع الرؤية لسنين طوال.

في اللحظة التي التقت فيها العيون مع العيون، وقفزت القلوب نحو القلوب، وفي اللحظة التي امتدّت يدُه ليقدّم إليها باقة الزهر، استيقظ من حلمه الأسطوري، ولا يدري كيف استيقظ.

ياااااااه..آآآآآآه.. لقد حرمه ذلك الاستيقاظ من متعة العيش في جنان الخلد مع الأحبة والخلّان.

وهكذا انفصم الخيال عن الواقع، وعاد هو إلى مكانه في مشرق الأهوال، وهي بقيت هناك في مغرب الضباب.

 

عبد الرحمن عمار

قاص وكاتب سوري

 
Whatsapp