أربع وثمانون عدداً صدر من صحيفة إشراق، وقد تشرفت بكتابة كلمة العدد فيها، كل ما كتبته كان يسيراً وسهلا، لم أتردد مطلقاً، كانت الكلمات تنساب ببساطة ومحبة، إلا هذه الكلمة فهي تعاندني وتمتنع عن الاستجابة إليًّ، خمسة عشر يوماً وأنا أحاول، أكتب وأحذف، الكلمات والتعابير تعاندني، تترنح الكلمات وتبكي وتنزف دموعاً، أحاول مواساتها فأفشل، وأندفع إلى حذفها، والبدء من جديد، والبداية من جديد مؤلمة وقاسية ومحزنة.
ما أصعب أن تتخذ قراراً تدرك أنك فيه تهدر روحك، وتنتزعها من جسدك لتتركها في وطنك الثاني تركيا.
لجأنا إلى مصر في 5/10/2012 بسبب محاصرة النظام لنا والتضييق علينا، واستدعائي إلى التحقيق وتهديده لي بالاعتقال والقتل لأكثر من مرة.
- لجأت إلى تركيا بتاريخ 7/9/2013.
خلال سنوات بقائنا في تركيا تعرفنا على الكثيرين، ونزولا عند رغبتهم أضفنا خانات جديدة إلى دفتر عائلتنا، وتركناه مفتوحاً وسجل فيه العشرات أسماءهم كأخوة وأصدقاء وأبناء وبنات أعزاء.
المئات من الأخوة والأصدقاء تركوا بصمتهم في حياتنا بطيبتهم وإنسانيتهم وإخلاصهم، فخور بهذه العائلة التي تكبر كل يوم، وأرواحنا دوماً ترحب بالأنقياء وتبادلهم المحبة والوفاء.
كم أغبط الأتراك على إنسانيتهم وكرمهم، يرهقنا حبنا لتركيا ولأهلها الطيبين كنسمات هوائها التي تعيد تكوين الروح المتهالكة، شوقنا لها ينتصب في أعماقنا كمارد، سنحمل حبها زوادة لنا في منفانا القادم، وسنورث حبنا لها ولأهلها الطيبين إلى أجيالنا القادمة.
ستة أعوام عشناها فيها، عوضتنا بحنانها عن وطننا الأول سوريا الذي غادرناه مرغمين، وظللنا متمسكين بأمل العودة إليه مجدداً.
قوبلنا منهم بكل الطيبة والإنسانية التي يمتازون بها، ولم نملك حرية الخيار، مرغمون على رفع أيدينا للوداع، وداع مؤقت لكل من أحببناه فيها.
في عام 2015 تعرفت على المفكر التركي (تورغاي ألديمير) فوجدت فيه النبل والصدق والشهامة، أدهشني بحبه للفكر والثقافة والسوريين، ومن خلال لقاءات عديدة وقف مع مشروعي الفكري بالتقارب السوري التركي وولدت صحيفة إشراق، وله الفضل في تأسيسها ودعمها ورعايتها، قدم كل جهده من أجل استمرارها، ودعم ملتقى الأدباء والكتاب السوريين وهو يعتبر الأب الروحي له.
سنظل ندين له ولعائلة بلبل زاده بالمحبة والاحترام والوفاء، سنستمر تحت رعايته بتمكين العلاقات الثقافية السورية بين الشعبين الأخوين التركي والسوري في أي مكان نكون فيه.
سنترك تركيا ونترك فيها أرواحنا وأصدقاء وأهل لن تنقطع صلتنا بهم خلال ابتعادنا القسري عنهم.
لم نفكر ولا للحظة بمغادرة تركيا التي نحب، وحين حزمنا حقائبنا مرغمين، بغفلة عنها، لو كانت تعلم مقدار عشقنا لها لأوقفت خطواتنا المبتعدة إلى المجهول.
نتمنى الخير دوماً لتركيا ولأهلها الطيبين وسنتمسك بالوفاء الذي يميزنا معاً،
سأعمل جاهداً للعودة اليها بأقرب وقت، فقد اختلط حبها بدمائي وأدمنتها، أعانني الله على تلك الأشهر ومفارقتها ولكنه القدر، لن أقول وداعاً بل إلى اللقاء القريب بشوق كبير، سأكمل ما تبقى لي متغلغلاً في دفء روحها النقية، فأنا متأكد من تمسكها بنا، لا وداع بل لقاء، انتظريني فوجهي سيبقى ينظر باتجاهك دوماً، لم أعلم يوماً أن هناك وطنان لي وهنا مكمن قوتي وسبب عودتي، حاولت جاهداً عدم مفارقتها إلا لأرض الوطن لأنه امتداداً لأرضها النقية والذي نتشارك فيه نفس التراب والهواء والإنسانية وروح الأخوة.
صبحي دسوقي
رئيس التحرير