إن سقوط الاستبداد الأسدي في سوريا هو المهمة الأكثر راهنية، ففي «ظله» كنا فقط باستراحة مساجين، ومتى انتهت نعود لزنازيننا «آمنين»!، وسوريا اليوم أبعد ما تكون عن كونها دولة وطنية جامعة لمواطنيها؛ فما فعله الإيرانيون وميليشياتهم الطائفية خاصة منذ مطلع العام 2012، على نحو ممنهج، هو إعادة تشكيل سوريا أخرى، ديموغرافياً ووجدانياً ودينياً وسياسياً، في مشروع استعماري مقنّع - محمي من دوائر صنع القرار الدولي، بأيدٍ روسية وصهيونية - خلق ويخلق حقائق اجتماعية واقتصادية وعمرانية مرعبة، من الصعب جداً تجاوزها أو حتى إزالتها بالمدى المنظور.
فبعد تجارب السنوات الطويلة القاسية، اكتسب شعبنا السوري بكل مكوناته، الكثير من الخبرات والمعارف؛ تعرفوا على مجتمعهم وتكوينه وتاريخه وجغرافيته، واطلعوا على أبعاد المشكلات التي يعانيها؛ كما تعرفوا إلى بعضهم، وتمكنوا بفضل التجارب الحية الملموسة من التمييز بين الجادّين والمتسلّقين، واستطاعوا تحديد بواعث الخلل وطبيعة الأخطاء التي كانت، وازدادوا معرفةً بأسس وماهية العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وتوسعت دائرة اطلاعهم عبر امتلاك ناصية اللغات والتقنيات الحديثة في ميدان الاتصالات والتواصل؛ وذلك كله ينتظر التأطير والتنظيم والتوحيد، وأمرٌ كهذا يستوجب المبادرة من قبل مجموعة أو مجموعات تمثل النواة الصلبة، في أي مشروع وطني مستقبلي طموح، فليس من الضرورة أن يضم الجميع في جسم تنظيمي واحد، بل يمكن بناء منظمات وفق الاهتمامات والمناطق، كما يمكن بناء الأحزاب الوطنية وفق التوجهات الفكرية والسياسية المختلفة؛ ولكن في المحصلة يمكن إدراج كل هذه الجهود في إطار تجمع أو تحالف وطني شامل، أما أن نسعى كأفراد لبناء هكذا تحالف، أو الدعوة لمؤتمر وطني، اعتقادًا منّا بأن ذلك يختزل المسافات، ويوفر الوقت والجهد، فهذا أمرٌ أثبت عدم واقعيته.
محنتنا السورية ستطول، وستأخذ المزيد من الوقت؛ ما لم نبادر جميعاً، إلى التمسك بحقنا المشروع في تحديد مصيرنا ومستقبل ثورتنا وشعبنا، مع التخلص من واقع الحال القائم وواقع القبول بدور الأدوات بمشاريع الآخرين أو واجهةً لها، درءًا لكل الاحتمالات السوداوية التي مازال غالبيتنا يجمع على رفضها.
السوريون الذين كلما ازداد ألمهم وموتهم، ازدادت ثرثرة هذا العالم، وازداد صممه؛ فمن ألمٍ إلى موت، ومن موت إلى موت صار الأمل يخبو، وصارت النفوس تنزلق من إحباط إلى إحباط؛ فهل عرفت البشرية موتاً يشبه هذا الموت؟ وهل تعرفت البشرية من قبل إلى موت يماثل هذا الموت المدفوع بهذه الوحشية كلها، والمردوم بكل هذا التجاهل والتواطؤ والصمت مع هذه الصفاقة الصفيقة والعلنية الفضيحة؟؟
بهذا الجو الكئيب تبدو محاولاتنا لزحزحة العالم المسمى «حر» للوقوف بجانب شعبنا الثائر، «اعتصامات»، «تظاهرات»، «ندوات» دائمة في أماكن اللجوء والتشرد وصولاً لحملة «الأمعاء الخاوية» في محاولة لتلمس الطريق الفاعلة، وكلها لم تجدِ نفعاً حتى الآن، ذلك أن الوصول إلى الرأي العام الغربي أمر أكثر تعقيداً من تصوراتنا التقليدية؛ ففي المجتمعات الغربية هناك شبكة موازية من الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني لها تأثير في تكوين الرأي العام، فضلاً عن تأثيرها على وسائل الإعلام، مع استقطاب تعاطف شخصيات عامة له دور كبير، وتلك الشخصيات لن تأتي من تلقاء نفسها؛ فعلى هذا الصعيد ربما يكون بعض السوريين المقيمين في الغرب منذ زمن طويل هم الأكثر معرفة بمراكز التأثير، والأقدر على التواصل مع شخصيات لها وزن اعتباري، ومن المستحسن لهذه الحملة «الأمعاء الخاوية» اكتساب اهتمام أولئك السوريين وطلب مساعدتهم بدل انتظار أن يتبرعوا بها من تلقاء أنفسهم لأن هذا قد لا يحدث.
والمفارقة الفاجعة أن ما من ثورة قدمت لقادتها من عناصر القوة ما قدمته ثورتنا السورية، وما من قيادة أهدرت هذه العناصر كما فعلت قيادات هذه الثورة التي لا تثق بشعبها ولا بنفسها، ولا ترى قوتها إلا في تبعيتها لأطراف أخرى؛ فكيف يمكن لقيادات كهذه أن تنصر ثورة أو تنتصر لها؟
اليوم، وأمام هذه الوقائع الصادمة، يجب أن نتخلى عن فكرة انتظار الآخرين، وأن نتخلى عن انتظار ما سيتمخض عن واجهات هذه الثورة التي لم تقدم سوى الفشل والخيبات، وأن يتقدم الشباب السوري في الداخل والشتات لصياغة معادلات جديدة في معركة سعي السوريين إلى حريتهم، وسعيهم إلى بناء سورية لكل السوريين في ظل مواطنة عادلة متساوية، إنها المهمة الأشد إلحاحاً اليوم، وهي مهمة ممكنة رغم كل اليأس الذي تحاول جهات كثيرة جر السوريين إليه، ورغم كل البشاعة في قهرهم وإرغامهم على القبول بما لا يريدون، فما السكوت عن مناظر اعتقال السوريين في لبنان وإعادتهم القسرية إلى سورية للقتال دفاعاً عن العصابة المجرمة إلا عارٌ آخر يضاف إلى سجل التعاطي الدولي مع المأساة السورية، وما السكوت عن عشرات البيوت المهدمة فوق رؤوس ساكنيها في إدلب وريف حماة ومناطق أخرى إلا فضيحة أخرى تضاف إلى فضائح الضمير العالمي في الألفية الثالثة للبشرية، ترى كم سنظل بعيدين عن السياسة كمهمة وأداء؟ وكم سيظل الوطن يدفع ثمناً باهظاً لخطايا الساسة؟
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري