خرج وائل الزهراوي، طالب الدراسات العليا في جامعة حلب، من أقبية المخابرات لينقل ما عجز الكثيرون عن تذكّره مما حدث معهم في معتقلات النظام وأقبية التعذيب في أفرعه الأمنية.
في زوايا الزنازين المظلمة ثمةَ قصص مؤلمة تروى، والدماء تنزف من قلوبنا حين نتذكرها، فعندما أصيب المعتقل (عبد المجيد) بالشلل في إدارة المخابرات الجوية بدمشق نتيجة غرزهم مسماراً في ظهره، لم يكن يعلم أن المساعد: (نصر إسبر) سيفقأ له عينه اليمنى بالكبل في قسم التحقيق لتسوء حال عينه الثانية وخلال أسبوع واحد يمسي ضريراً في ظلمات بعضها فوق بعض. ويكون أحد المقُعدين الذين كانوا في زاوية زنزانتنا صرخة وجع تطعن ضمير هذا العالم الصامت.
في قطعة الجحيم تلك لم يكن المقعدون المصابون بالشلل يذهبون معنا للمراحيض كانت كل فضلاتهم تحتهم، في بعض الأحيان كنا نحفظها بأكياس النايلو التي نادراً ما كنا نحصل عليها، وكانت رائحتهم قاتلة لدرجة أننا نحبس أنفاسنا حين نحفظ واحداً منهم.
في كل مرة كنت أقترب فيها من عبد المجيد لأتأكد إن كان حياً أم أنه استشهد وأسأله أخي عبد المجيد كيف أنت. كان يستجيب لأي كلمة بخليط عميق من ملامح الأسى التي كانت تتصارع لتفوز بوجهه الجميل، ويمد يده التي ترتجف إلي.
ويحاول أن يدير وجهه بالاتجاه الصحيح نحوي لترتعش كالعادة شفتيه عدة مرات ويسيل لعابه خارج فمه قبل أن يقول بلهجته الحموية:
خيي وائل أنا مشتاق للأولاد كتير … والمشكلة حتى لو طلعت من هون كيف بدي شوفهن أنا عميت أخي وائل. مبارح حلمت إني طلعت وشفت الولاد وبستهن كلهن. ثم يضخ حزن الكون كله في قلبي حين يبدأ بالبكاء دون دموع، ويقول:
أنا مسجون بعتمتي خيي وائل. أنا ما بقى تفرق معي الأماكن كلها بالنسبة إلي صارت سجن.
ويشهق ليكمل جملته التي لازالت تقضم قلبي ويقول:
بلكي بحضنهن مرة قبل ما موت.
كنت أظن أن العميان لا يحلمون لكني عرفت في الزنزانة أن كل شيء يحلم حتى الأشياء والشوارع والنوافذ، في منتصف الليل (سحلوه) من رجليه وهو يتلفت في عتمات عينيه ولا يعرف أين يأخذوه، وبعد أيام كانت جثته في الممر كأنها وطنٌ مهجور لم يسكن فيه أحد سوى دموعنا عليه، دموعنا التي ذهبت هباءً.
حين خرجتُ من المعتقل ورأيت ابنتي لأول مرة لم تعرفني، وحين سألتني من أكون اخترقني سؤالها كرمح، لم أستطع حتى أن أجيبها من أكون!! كيف يخبر أبُ ابنته أنه والدها كيف!!؟؟ غصصت وانتحبت بكاءً لصورة عبد المجيد التي سيطرت على ذهني عندما سألني كيف يمكن أن يرى أولاده بعد أن أقعدوه وأعموه!!
أنا خَجلٌ من عبد المجيد لأني رأيت طفلتي، وهو لن يتمكن بعد اليوم من رؤية ملامح أطفاله.!! وخجل لأن القاتل (نصر إسبر) لازال يعيش ككل الآخرين في وطني المحتل ولم يحاكمه أحد، وخجل من الظلام الذي كان سجن عبد المجيد الكبير ولم يطلق سراحه منه سوى الموت.
رائحته التي كانت تؤلم الجدران أطيب عندي من طيوب الدنيا، وقطع البراز التي كانت قد يَبست على قروحه التي ملأت ظهره وفخذيه كنت أقشرها له بقطعة قماش من قميص معتقل مات بالأمس، عبد المجيد كان يحلم أن يعود يوماً لكنه بقي هناك لأجلكم، قبل الموت أعطاكم قوته وبصره، وبعد الموت أعطاكم روحه وحياته.
آه يا وجعي، آه يا عبد المجيد، أنا اليوم أتمنى لو كنت ضريراً ولا أرى ما يفعله بنا من حسبناهم منا قبل أعدائنا، عبد المجيد كان شريك العذاب، كان السوري المسحوق الذي تحتاجون لمجهرٍ كي تروه، عبد المجيد هو أنا وكل السوريين الذين خانهم كل هذا العالم، هل تسمعوننا أيها السادة هناك.!!! أنتم يا من تفاوضون على بحر من دمائنا وتراث من هتافاتنا وحضارات من مقابرنا، لم يعد لدينا لكم سوى جملة واحدة يا سادتي: سنثور عليكم من جديد.
وائل الزهراوي
كاتب سوري