قدر الجغرافيا واقتضاء المسؤوليّة والتاريخ


 

 

حين جئت إلى عينتاب لم أشعر بأنني حقاً غادرت حلب، كنت ألمح مدينتي في كل ركن وزاوية، وفي كل شيء يحيط بي، وجوه الناس الطيبين كما لو أنها وجوه جيراني وأصدقائي وأقربائي، الأزقة والشوارع والساحات، المدينة القديمة والأسواق والقلعة، الهواء والماء والمناخ والطبيعة والطعام والعادات والتقاليد الجميلة، كل شيء هنا في هذه المدينة الجنوبية يذكرني بما رأيته من قبل وعشت في ظلاله ولمسته بحواسي وروحي، مع ذلك لم أستطع خلال شهورٍ عديدة أن أستعيد شعوراً بالأمن والأمان، وتوازناً فقدته في بلدي أثناء تجربة الفزع والأخطار التي تهدد حياة عائلتي خاصة في الأيام الأخيرة من وجودي في الجحيم الأسديّ.

 لا يغيّر توصيف وجود السوريّ في دول الشتات سواء أطلقنا عليه صفة الضيف أو اللاجئ أو المهاجر من حقيقة الأسباب التي دفعته وأرغمته على الفرار من شرك الموت بالقصف أو الخطف أو الاعتقال والتعذيب، وللخلاص من المجهول المرعب الذي يتربص بحياته وسلامته، كما لن تغيّر الوقائع الجديدة من حقيقة أنّ السوريّ في الغالب الأعمّ ليس في نيّته البقاء لاجئاً أو مهاجراً أو ضيفاً في تلك الدول، وينتظر ويعمل للّحظة التي تنتفي فيها أسباب تشرّده، وتتحقق بحدّها الأدنى الظروف المواتية للعودة إلى وطنه وداره.

لا شكّ أنّ تركيا حكومة وشعباً وحدها من بين الدول المجاورة من فتحت حدودها واحتضنت العدد الأكبر من السوريين المنكوبين دون شروط أو قيود، وقدمت لهم الحماية والخدمات والرعاية الصحية والتعليم والعديد من المساعدات، وتغاضت عن كثيرٍ من المخالفات كنقص الوثائق أو انعدامها، والعمل دون رخصة أو إذن بحكم الظروف الموضوعية التي رافقت تهجيرهم المأساوي، قبل أن تعمد الحكومة إلى اتخاذ اجراءات من شأنها الحدّ من حريتهم في تنقلاتهم، ثمّ مؤخراّ تصرّح بأن سياسة جديدة تنتظر السوريين ستنعكس تشديداً على إقامتهم وممارستهم للعمل وربما مزيداً من التضييق على سلوكهم وحركتهم.

لقد دفعت المصالح الآنيّة، غالباً من زاوية رؤية ضيقة، بعضاً من السياسيين وعدداً من أجهزة الإعلام والإعلاميين ونفراً من رواد مواقع التواصل المنتدبين أو المُضللين، إلى التحريض الشعبوي، وإلى استخدام لغة تمييزية وخطاب كراهيّة ضدّ السوريين ووجودهم الطارئ على الأرض التركية، والتركيز على الأخطاء والسلبيات، وتصويرهم على أنهم جبناء ومجرمين ومخالفين للقانون، ويشكلون خطراً على أمن تركيا واقتصادها، وعلى رفاهية الشعب التركي وأمنه واستقراره، بل لجأ بعضهم إلى اختلاق الأكاذيب وعكس الحقيقة وتزييفها، والافتراء على السوريين وشيطنتهم، وتشويه صورتهم وثقافتهم بغية طردهم وترحيلهم إلى بلدهم حيث يكمن لهم النظام القاتل ليفتك بهم وبأطفالهم. ولقد ساعد هؤلاء عدد لا يستهان به من السوريين أنفسهم بدافع الجهل، أو بشكل متعمّد من البعض تنفيذاً لأوامر مشغليهم من أجهزة أمن النظام السوري القاتل وشركائه والمتحالفين معه الذين يسعون إلى افتعال المشاكل وإثارة القلاقل لإلحاق الأذى بتركيا وبالشعب التركيّ.

إنّ ما سبق يعدّ تعاطياً غير مسؤول من البعض الذي لا يدرك العواقب السيئة لما قد ينجم عنه من أضرار شديدة في العلاقة التاريخية بين الشعبين الجارين والأخوين على جميع الصعد، ومن البغضاء والأحقاد التي ستنشأ وتمتدّ لأجيال وآجال طويلة، ويدعو لقرع ناقوس الخطر الذي يتعدّى الحاضر المؤقت إلى المستقبل الأبديّ 

إنّ التسامح والاحتضان الذي قابلنا به الشعب التركي في محنتنا لهو رسالة وأنموذج للتآخي والتضامن والمواساة لما ألمّ بنا من كوارث ونكبات، كما إنّ التاريخ المشرف الذي ساهمنا بصناعته في الماضي القريب، والثقافة والعادات والأعراف المشتركة أزالت كثيراً من الشعور بالغربة لدينا لكننا أبداً لم ننس أنّ تركيا هي حقّ مقدّس للشعب التركيّ وحده، وأنّ وجودنا الاضطراريّ فيها لن يستمرّ، وأنّ جمال هذا البلد ورقيّه وحسن ضيافته لن يحولنا إلى سائحين أو مقيمين دائمين، ولن يمنع عنا إصرارنا على انتزاع حقنا في الحرية والعدالة والكرامة من الظالمين والمجرمين، وفي العودة إلى أرضنا، ولن يبرّد همتنا في استعادة منازلنا وحواكيرنا وحياتنا الحقيقية كبشرٍ وكمواطنين في بلدنا الأمّ سوريا. فنحن السوريين أيضاً لنا وطن نعشقه ونكابد الشوق والحنين للعودة إلى ترابه، ولم يكن لنا الخيار في الهجرة المؤقتة منه، ولن تطول فترة غيابنا عنه.

الإعلام مسؤولية كبرى والكلمة أمانة في عنق الإعلاميّ وفي ضميره ووجدانه، لا يجوز لمن يحرص على مستقبل بلده وأهله وأبنائه، وليس من المنطق ولا حتى من المصلحة أن يزرع الكراهيّة والأحقاد تجاه أخوته وجيرانه الأبديين فالجغرافيا قدر للتركيّ وللسوريّ، هل يمكن لأيّ منّا أن ينتزع جغرافية وطنه وأن يذهب بها إلى قارة أخرى أو أن يزحزحها عن مكانها التاريخي بوصة واحدة؟! بالتأكيد لا ولن يستطيع أن يستبدل جاره أو أرض جاره بجارٍ آخر أو أرضٍ أخرى.

الجغرافيا قدر ثابت لا يتغير أما التاريخ فهو قضاء يمكننا بوعينا المسؤول وعقلنا الراجح أن نتدخل فيما سيرد بين سطوره، بإمكاننا، بإرادتنا المشتركة وبرغبتنا في حياة إنسانية يسودها الحبّ والسلام وقيم الخير والحق والجمال، أن نكتب التاريخ معاً لأجيالنا القادمة بحروف من نور. 

للجار حق على جاره أن ينصره في مطالبه وحقوقه المشروعة وأن يهبّ لنجدته، وأن يواسيه ويعينه على مصائبه.. نحن السوريين والأتراك جيران وأخوة فمنذ القدم بلاد الشام والأناضول كانتا ولن تغادرا أو تتبدّلا وستبقى تشرق فيهما شمس الحياة.

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 

 
Whatsapp