غادَرَها إذاً؟!
ممُسِكاً بِيَدِها حتى رصيفِ الممكِنِ الاخِير، جالِساً قُربها بِصمت، على مقعدٍ خَشبيّ، تحتَ شجرةٍ لا ظِلالَ لها.
شاحِباً كانَ مُحَيَّاهُ ومُرتَبكِاً؛ هارِباً بِنَظرِهِ من عينيَها لِلأعلى، حيثُ تَدَلّت بِضْعُ وُرَيقاتٍ جَافّاتٍ، مُتعَلّقاتٍ بهَشاشَةٍ بأطرافِ أعْوادِهنّ، مُنتَظِراتٍ نَفخَةً مِنَ الرّيحِ للسُّقُوطِ الأَخِير.
بِضْعُ وُرَيقَاتٍ كانَتْ، لكِنّها عقارِبُ سَاعَتِهِ، ومُؤقّتُ رَحِيله، وَرَقةٌ سقطَتْ في يدِها؛ أَطبقَتْ عليها بسُرعةٍ، عَلَّهُ لا يلحَظها.
عَبرةٌ تَدَحرجَتْ على وجنتِها؛ تَلتْها عَبراتٌ كادتْ تنهمِرُ لَولا أنْ أطبَقَتْ عَليها جَفْنَيها، لتمطِرَها لاحِقاً في غيابِه؛ في حين تلاحَقَتْ وُرَيقاتٌ أُخْرياتٌ وعَبرَتْ وَجْنتَيها؛ قبّلتهُما على عجَلٍ، وتابعَت السّقُوط، حيثُ ارتقَتْ في حُجْرِهَا بهدُوء.
في مَأْزِقِ الوقْتِ، قد نقولُ كلماتٍ ما كُنّا لِنُدْرِكَ أنّها كانَتْ تحْجزُ المقاعِدَ الأولى في ذاكرتنا، نفعَلُ أَشياءَ ما كُنّا سَنَفعلُها وَلا مُتّسَعَ لِنُبرِّرَها لأَنفُسِنا، ولكِنها هيَ ذاتُنا التي نعثرُ عليها في النهَايات، حينَ تتَوقّفُ عَقارِبُ الزّمنِ وَيهْجُرُنا الكِبرِياء..
أَتُراهُ كانَ يخشَى عَليها مِنَ البردِ في غِيابهِ، حينَ أَخْرَجَ من جَيبِ مِعطَفِهِ الخفيفِ قِطعةَ قماشٍ مِنَ الصّوفِ الفاخِرِ وَغلّفَ يَدَها بهَا، أَمْ كانتِ الغَيرَةُ تَعبَثُ بقلبِهِ منَ اليدِ الأُخرى التي سَتأخُذُ بِيدِها حالمَا يتَخلّى عَنها؟
كيفَ يخافُ وَيغَارُ مَنْ أَضْمَرَ مُسبَقاً الرّحِيل؟
فَكلُّ الذينَ نَتَيقّنُ مِنْ بقَائهِمْ معَنا أبَداً؛ يُضْمِرونَ لَنا رَحِيلاً مُوجعَاً...
ذلكَ أَننا لِفَرْطِ حُبّنَا وَتَعَلُّقِنا نغفل عن عقارِبَ القَدَرِ بِسذَاجَةٍ، ويَغدُو كلّ ذلكَ المدِّ الاستفهاميّ وَالجزْر التعَجُّبيّ بلِا جَدْوَى حينَ يَطعننا الغِياب!
الآنَ فقطْ تستطيعُ أنْ تنهَمِرَ مُطَوّلاً جِدّاً، فَيلْجأُ قلبُها إلى أَقصى زاوِيةٍ ممُكِنةٍ في أَضلاعِهَا.
مُنكمِشاً صَغيراً وخائِفاً؛ وَيَدُ الصّقيعِ تأخُذُ بيُمنَاهَا، لا يفصِلُهُما سِوى قِطعةٍ صَغيرةٍ مِنَ الصّوف، وباليدِ الأخرى تُشعِلُ كُلّ مَوقِدٍ تعبرُ بِهِ؛ عَلّ يُسراوِيّةَ اليدِ بِالدفْءِ تَنسى بَرْدَ الغِيَاب.
هانية خانكان
كاتبة سورية