غريباً لا يموت الشعر


 

 

للشعر أن يتسلّق الأسوار هارباً من قذيفة معبّأة بشهوة القتل ويمكنه أن ينجو من رصاصة قنّاص يترصّده على الجانب الآخر من الموت...؟! 

لكن هل بمقدور الشعر أن يعيش لاجئاً على صدرٍ متخمٍ بالحقد والكراهية، أو ضيفاً على مائدة لم تعدّ لأجله، أن يزدرد لقيمات تنضح برائحة الذلّ، وبزناخة عالمٍ تواطأ على الإمعان في الفجيعة وتعويم القبح، هل تتعثّر به الطرقات فيسقط وينكسر...؟؟

سيكون عليه إذاً أن يغيّر لغته وطقوسه وعاداته، أن يخلع رداءه الموغل بالزرقة والامتداد، وأن يلوذ بوكر الخديعة والتملّق، أن يتأدّب كما ينبغي لغريب، وأن يلتزم السنن ويقرفص ليقدّم الفروض، أن يطأطئ في مشيته وينحني لالتقاط بطاقة تمنحه حقّ الإقامة على أرصفة تكترث فقط لأقدام العابرين المتخمة بالدنانير، ولوطأة أحذيتهم المترهلة بأصحابها على أرضيّة متسخة خشنة. 

كأني به حينئذٍ كائن مطواع منضبط يحترم الأصفاد والقيود، ويلتزم شارات التوقف والتهيؤ والمرور كي يبدو أليفاً ومستساغاً من المغدقين على أصحابه بالعطايا والهبات، كائن هيوليّ لزج يصلح بطانة لسراويل السادة الفضفاضة، كائن ثرثار مثير للشفقة لكنّه بالتأكيد سيكفّ بالمطلق عن أن يكون شعراً.

قد يهاجر الشعر أوطانه ويغادر مستنقعات الرعب والقيح والدم، قد يظمأ ويجوع ويكابد الخوف والتشرّد والبرد، قد يتيه في صحراء النبوءات، أو في شعاب الأودية وفي معارج الفتنة، قد يطلب اللجوء بحثاً عن الأمن والسلامة والدفء، لكنّ هجرته أبداً لن تكون يوماً للقصور ولا لمضافات الرياء والنفاق، ستكون هجرة الشعر إلى الغابات والجبال والأودية، إلى الصخور الناتئة في متاهات الخلجان، إلى الأنهار المفتونة بمصيرها الغامض، والبحار المضطربة بحملها الأسطوري، وربما إلى صدر أنثى بشغف شتائها الأربعين ما تزال تغزل للربيع شالاً من حرير.  

مع ذلك ليس طريق الشعر مفروش بالرضا والحبور، فالتمرّد لا يلقى، حتى في المنافي، ترحيب المطمئنين إلى برودة أصفادهم والقانعين بخيامهم المهترئة، المستكينين لراحة متوهمة في ظلّ الرضوخ لقانون العبيد، قلة مؤمنة هي التي تسعى إلى محراب الجمال الحرّ، وتشرب من ينابيع التجدّد الباذخة كي تشفّ أرواحها، وتخفّ أجسادها المثخنة بالألم والحزن، في رحلة أبديّة نحو فضاء الوجود المزدحم بالأسئلة عن الحقيقة والمعنى والجدوى.

للطيور المهاجرة أيضاً مواسم دائمة تغادر فيها أوطانها الأصلية طلباً للدفء والماء والكلأ، تحمل أوطانها في داخلها وتعرف كيف تعود إليها، لكنها أبداً لا تتخلّى عن ريشها وعن شغفها بالانعتاق والتحليق.

لا شيء غير غريزة البقاء يدعو الطيور إلى مغادرة سماء أوطانها وأشجارها وغدرانها، إنّه البحث عن حياة محتملة في الطرف الآخر من العالم حيث لا ضامن من فوّهة مغامر أو شرك صيّاد، وربما من تحوّل ظرفيّ قاهر يخلخل الأبنية والمسافات.  

لم يحدث للطيور المهاجرة قطّ أن تلعثمت بغنائها أو تخلّت عن أجنحتها، لم يحصل أن ضلّت طريق عودتها نحو السماء، كذلك حال الشعر لا يتوه عن ضالته ولا يضلّل عاشقيه.

ما بين حال شعرٍ يغصّ من كمد وإهمال، وبين طيور تختنق بأوطانها التي تأبى أن تغادر حلوقها ينهض السؤال عن حال الشعراء؟

نعم للشعر أجنحة يطير بها حيث يشاء ولغة لا تكفّ عن الإبداع والخلق الجديد، للشعر كهوف تحميه من بطش الطغاة والوحوش، وسراديب سرية تأخذه إلى حيث فضاءات المعنى مشبعة بأناقة الحرية وفوضى الدلالات، وإلى فيوض الجمال والحبّ.

وبما يليق من ألوان الغياب ينسج الشعراء أكفان الرحيل، يطرزونها بما أمطرت قلوبهم من أحبار، وبما جنت حواسهم من رحيق، ويمضون راضين وساخطين.

يموت الشعراء ويبقى الشعر غريباً ولا يموت.

 

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp