عن الإنسان والأديان


 

 

دائرة معارفي بالناس كانت ضيقة جداً في بلدي سوريا، وتكاد تنحصر في أهل مدينتي حلب وريفها، ثم بعد عملي في القطارات، وبعد خدمة العلم توسعت لتشمل العديدين من بقية المحافظات، وحين قيض لي السفر إلى بعض البلدان العربية المجاورة زاد عليها معرفتي ببعض العرب الأغراب، لكن لم تشمل الأجانب من خارج الوطن العربي الكبير، ولكي أكون صادقاً تماماً يجب أن أعترف بمعرفتي بحاج هندي فقير، التقيت به في محطة بغداد للقطارات بحلب، رافقته في رحلة إلى دمشق خلال عملي في السكك الحديدية السورية، واستضفته في بيت أختي لبعض الوقت، نجم عن ذلك التعارف دعوة حارة لي من الحاج الهندي للهجرة إلى بلده لتزويجي ابنته ومنحي مزرعة مانجو كبيرة كمهر لزواجي بها، وبكل عناد رفضت العرض المغري وكلي رجاء بلقاء حورية من بلدي جنة حبي واشتياقي.

   كنت لا أعرف شيئاً عن الأديان سوى ما لقنتني إياه الكتب المدرسية ومطالعاتي الخاصة، وكان الشعار في سوريا أن الدين لله والوطن للجميع، ولا أحد ينكر دين غيره ويكفره، كنا نأبى نعت فلان بعرقه وأصله إلا على سبيل التعيين والتخصيص، فنقول صديقي الشركسي لنخصّ به رجلاً معيناً دون قصد التشهير أو التمييز، حتى عندما ننعت أحدهم باليهودي لا نقصد الإساءة للديانة اليهودية، إنما طباع اليهود وعاداتهم وخصائلهم، وقد نطلق تسمية اليهودي على العدو الإسرائيلي ولا نعني بها الرجل المعتنق الدين اليهودي، فللموروث الشعبي والبيئة الاجتماعية دور كبير في تكوين انطباعاتنا وصورنا الذهنية عن الأمم والعقائد والأمكنة..

   في رحلتي الطويلة - طلباً للجوء - من تركيا إلى النمسا، تعرفت على الكثير من الأجانب، كان أكثرهم أفضل معاملة وأحسن أخلاقاً من عرب مقيمين قبل قدوم اللاجئين في موجة اللجوء الكبرى عام ٢٠١٥، فإذا ما سألت أحدهم عن طبيب حاذق ينصحونك بالنمساوي فلان، وإذا ما سألت عن محامٍ شاطر وفهمان يقولون لك ما في غير اليهودي يعقوب، وإذا أردت البحث عن سكن حذروك من السماسرة العرب فقد يحتالون عليك ويبتلعون نقودك، هكذا تجد السمعة السيئة تلاحق العربيّ في مجالات عديدة، وقد جربتُ مطعماً عربياً للأكل الحلال، وأقسم لم يكن فيه شيء من حلال: خدمة سيئة ووجوه مكفهرة كمن عبسَ وتولّى، وطعام قليل غالي الثمن وكأنه متبل ببرادة الذهب، فوق ذلك إما يأتيك بارداً أو محروقاً أو غير ناضج، استثني مطاعم الحلال التركية، فهم يستقبلونك بترحيب بشوش لطيف قائلين: geldiniz)  hoş) أي أهلاً وسهلاً، ويهرعون إلى تقديم ضيافتهم التقليدية فور انتهائك من الطعام ، فيقدم لك النادل كأس الشاي الخمير من قلبه قائلاً بمحبة 

وسرور: (afiyet olsun) أي هنيئاً لك وبالعافية، ليس هذا فحسب ما يجعلني أثني عليهم، فالطعام وفير ناضج ولذيذ، ثمّ إن الخدمة جيدة والمحل نظيف، فما تدفعه يستحق ما تتنعم به من أكل حلال وخدمة كريمة بنفس رضية وبسمة دائمة. 

للأسف الشديد فإنّ لدى كثيرٍ منّا انطباعات وقناعات خاطئة بأن غيرنا نحن العرب المسلمين لا يتحلّى بالأخلاق الحميدة، ونحن أصحاب العقيدة الصحيحة دون غيرنا، ويعمّمون ويزعمون بأن معتنقي الديانة الفلانية كذابون، وأتباع المذهب كذا منافقون دجالون، وأصحاب البشرة الفلانية مناكيد أنجاس، وأصحاب اللسان الفلاني مكارون شياطين، والمنتمي إلى القومية الفلانية غبي أحمق، وأولئك الناس من عبدة كذا وكذا مارقون كافرون، وأنهم في جهنم و بئس المصير خالدون مخلدون، لكن تجربتي تدفعني للقسم بأنّ ما رأيت من معظمهم وما عرفت وما خبرت من الخصال والقيم لم أجده في كثيرٍ من أخوة الدين والعرق واللسان، وبعد هذا يقولون عنهم كفار.! 

في أوربا لم أجدهم يكذبون على أبنائهم، ولا ينسجون القصص والخرافات عن بقية الناس والأديان والمعتقدات، يعلمون الأطفال أن الإنسان واحد، والربّ واحد، وأنّ كل الأديان تقود إلى مخافة الخالق وخلاص الإنسان، فلكل إنسان معتقده ولونه وطبعه ولغته ومشاعره، قد نختلف في الأعراق والعقائد والقناعات، وفي الملامح والأسلوب واللباس واللغة، لكننا نمتلك نفس الأعضاء والمشاعر والحواس، كلنا نجوع ونأكل، نحب ونكره، ننام ونستيقظ، نتزاوج ونتناسل كغيرنا من الناس. 

   حكى لي صديقي الأفريقي (Shering) (شيرينغ) كيف تعرض لموقف محرج مع أطفال مدرسة دُعيَ للمشاركة في إحدى فعالياتها، لتعريف الأطفال على عادات الشعوب الأخرى وتقاليدها، قال لي بصراحة: لقد خاف الأطفال من مظهري ولون بشرتي في أول الأمر، وظنوا بأني لست مجرد إنسان مثلهم، فحاذرت الاقتراب منهم والتحدث معهم كيلا أخيفهم أكثر، بعد قليل صدحت حناجرهم بأنشودة مدرسية ألمانية أعرفها وأحفظها، فدندنت بمفرداتها ولحنها مع الصغار، ورويداً رويداً بدأ الأطفال بالاقتراب مني بحذر، ثم اقتربوا أكثر وبدأوا يلمسون جسدي وشعري، ثم أخذوا يقرصونني للتأكد من حقيقة لون بشرتي ومن مشاعري، تأوهت فرحاً، وضحكت معهم حين اكتشفوا ببراءتهم النقية بأنني مثلهم كأي إنسان.

 

 

 

جهاد الدين رمضان

كاتب سوري

 
Whatsapp