لا يمكن لسوري منصف أن ينكر الدعم الذي قدمته الحكومة التركية للسوريين في محنتهم الأخيرة والثمن الذي دفعته في سبيل ذلك، كما لا يمكن لمراقب منصف أن يتغافل عن الضغوطات الداخلية التي تعرضت لها حكومة العدالة والتنمية بسبب الوجود السوري داخل أراضيها، والذي استغلته المعارضة لتحقيق انتصارات انتخابية لم تحلم بها منذ سنوات طويلة، ولا يمكن لباحث منصف أن يتجاهل التهديدات الخارجية الضخمة التي تتربص بالدولة التركية من جميع الجهات والتي تشارك فيها العديد من القوى الإقليمية والدولية على خلفية أيديولوجية أو قومية أو تاريخية، أو حتى نفسية، لا تخلو من حالة حقد وغيرة من النهضة الاستثنائية التي حققتها الحكومة التركية الإسلامية خلال العقود الماضية، والتي تخشى تلك القوى أن تشكل نموذجًا يحتذى من قبل الدول المجاورة العربية والإسلامية ،الأمر الذي يشكل خطرًا استراتيجيًا على الدول الاستعمارية وأدواتها التي تريد لهذه الشعوب أن تبقى متخلفة وعاجزة ويائسة، حتى يسهل نهب ثروات بلادها والسيطرة على قرارها . رغم كل ذلك، ورغم تفهمنا لصعوبة الموقف التركي إلا أننا (وتحت ضغط الواقع المؤلم الذي يعيشه الشعب السوري) لا يمكننا إلا أن نطرح العديد من التساؤلات ونضع الكثير من إشارات الاستفهام على الموقف التركي الأخير من القصف الروسي الوحشي للشمال السوري الذي تشكل تركيا الضامن الأساسي لاستقراره، وفقًا للتفاهمات التي أبرمتها مع الروسي خاصة بوجود العديد من نقاط المراقبة التركية في هذه البقعة التي تتعرض اليوم لحرب إبادة تسعى إلى تغيير ديموغرافي لا يصب قطعًا في مصلحة الدولة التركية. فهل الهدف من وجود نقاط المراقبة هو فقط المراقبة؟ من حقنا اذاً أن نتساءل. أين تلك الاتفاقات التي عقدتها تركيا مع روسيا بهدف حماية الشمال السوري من مصير مشابه لمصير الجنوب والغوطة؟ وإذا كان ما يحصل هو خرق روسي للاتفاق فماذا أعدت الاستراتيجية التركية من خيارات للرد على هذا الخرق؟؟ هل يمكن لتركيا أن تتحمل ملايين أخرى من المهجرين في بلدها أو على حدودها مهددين بالموت قتلًا أو جوعًا أو بردًا؟ هل تدرك تركيا أن وجود الثوار على الشريط الجنوبي لبلادها هو الحماية الوحيدة لتلك الحدود؟؟ هل تعي تركيا مدى الأذى الذي لحق بسمعتها جماهيريًا في الدول العربية بسبب الحالة التي تحصل في الشمال السوري، وخاصة بوجود وسائل إعلام ضخمة تتربص بتركيا وتحاول تشويه صورتها؟ والأهم من كل هذا. هل ستتحمل تركيا (في المنظور الاستراتيجي) الخطر الحقيقي الناجم عن سيطرة النظام الأسدي والقوات الكردية على الحدود الجنوبية لتركيا مع كل ما تراكم في داخلها من حقد ورغبة بالانتقام من تركيا شعبًا وتاريخًا وجغرافية، وخاصة بوجود جهات مستعدة للتمويل، وجهات مستعدة للتسليح، لكي تحقق عبر الحدود ما فشلت في تحقيقه عبر أدواتها الداخلية منذ ثلاث سنوات؟ يدرك الجميع أن تركيا/ العدالة والتنمية تعيش مرحلة صعبة اليوم يجتمع فيها كل المتربصين من الداخل والخارج من أجل إسقاطها كنموذج للنهضة والتطور. ويدرك الجميع أن تركيا محاصرة جغرافيًا وإعلاميًا وثقافيًا بأدوات داخلية وخارجية تجعلها حذرة جدًا في أي خطوة تخطوها خوفًا أن تكون كمينًا لإغراقها أو خنقها. لكن الأحداث التاريخية المفصلية بحاجة إلى قليل من المغامرة، وكثير من الجرأة، في اتخاذ القرارات المصيرية ذات الأثر الاستراتيجي. ولا بد أن المحللين الأتراك يدركون أن سقوط الشمال السوري بيد النظام الأسدي هو خطر استراتيجي محدق، سيعني دون شك فتح أبواب الجحيم على الدولة التركية عمومًا وحكومة العدالة والتنمية خصوصًا. إن الشمال السوري اليوم هو عمق الأمن القومي التركي، وإن سقوطه بيد القوى المتربصة بتركيا سيكون له من العواقب الأمنية والجيوسياسية ما قد يحدث زلزالًا في الداخل التركي يصعب احتواء آثاره. لذلك لا مهرب أمام الحكومة التركية من اتخاذ خطوات جريئة وسريعة، تتمثل في تشكيل قيادة وحكومة مركزية في الشمال السوري تحت مظلتها، ودعمها بكافة الوسائل اللازمة لصد العدوان عليها دون مراعاة الخطوط الحمراء الوهمية التي ترسمها الدول الكبرى، والتي هي في حقيقتها خطوط من دماء شعوب المنطقة، تستمتع تلك القوى بمشاهدتها تطول وتتمدد بأيدينا يومًا بعد يوم. إن كلاً من الاستراتيجيا والأخلاق تدفعا الحكومة التركية اليوم إلى اتخاذ القرارات الشجاعة اللازمة لحماية الشمال السوري. وأي تردد باتخاذ تلك القرارات سيكون له ارتدادات سلبية عميقة على تركيا على مستوى الاستراتيجيا والأخلاق معا. وسيدخل المستقبل التركي في دائرة المجهول، لا قدَّر الله.
د_ معتز محمد زين
كاتب سوري