لماذا الثورة السورية نموذجية؟


 

 

بعيداً عن النظرة القطرية الضيقة، التي ضررها أكبر من نفعها، أقول: إن الثورة السورية هي الثورة النموذجية الوحيدة في المنطقة، بالرغم من الكلفة البشرية والمادية الباهظة التي دفعها السوريون، وهي كلفة مفهومة في سياق تفسير سنن الله في خلقه، ومن ذلك سنن التاريخ في الشعوب التي تستسلم للدعة، وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتستوي في هذا الميزان كل شعوب الأرض، المسلمة منها وغير المسلمة.

لكن لماذا كانت الثورة السورية نموذجية؟!

بعبارة بسيطة، وراءها استقراء للظروف السياسية والتاريخية لدول المنطقة، حملت الثورة في الشام منطقًا ثوريًا حديًا على المنظومة السياسية برمتها، وكل ما تفرع عنها من منظومات اجتماعية واقتصادية، وهذا مرده إلى الفارق النوعي بين السلطة في سورية، أو بعبارة أخرى: النظام السياسي، وبين نظرائه في الدول العربية ، ففي مصر وليبيا واليمن، كانت الأنظمة السياسية، على فسادها وعمالتها، جزءً من النسيج المجتمعي نفسه، ولم تكن السلطة تعادي ثقافة المجتمع وعقيدته، وكان ينحصر اهتمامها في الاحتفاظ بالسلطة من دون وجود مهددات، ولذلك أنتجت هذه الأنظمة مقاربة "تصالحية" مع الدين ولم تعبث بتصورات الناس الدينية، فكان يُلحظ وجود طبقة من العلماء عملت على تصحيح تصورات الناس، أو على الأقل اشتغلت في المساحة المتوفرة لإيقاف مسلسل الانحراف في تصورات المسلمين للدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد، وهو المسلسل الذي بدأت أوائل حلقاته تتسرب إلى المجتمع المصري، ومن ورائه مجتمعات شمال إفريقية، وبدرجة أقل بلاد الشام والخليج العربي، بعد بضع سنين من حملة نابليون بونابرت، على مصر، التي كان أهونُ مظاهرها وأقلُّها ضررًا: الاحتلالَ العسكري، وإن كان هذا الاحتلال هو الذي فتح الباب على مصراعيه لدخول كل الأوساخ على الأمة بعد ذلك.

في سورية كان الوضع مختلفًا، فمنظومة الحكم كانت أسيرة مجموعة من النخب التي تنتمي إلى الأقليات الدينية، وكانت هذه النخب "الأقلوية" مسكونة بأحقاد تاريخية، لم يكن السبب فيها الأكثرية نفسها بقدر ما كانت "عقدة" الأقلية التي تولدت، وفق منطق نفسي تاريخي، من استحواذ الأكثرية على السلطة طوال قرون، وتمخضت إحساسًا بالدونية.

تبين ذلك في الشبكات التي كانت تدير الانقلابات في البلاد في المرحلة التي أعقبت رحيل الآلة العسكرية الفرنسية عن البلاد، إلا أن أكثر ما جلّى تلك الأحقاد كان آل الأسد بعد استحواذهم على السلطة، وسلسلة الإجراءات التي اتخذها حافظ الأسد، التي كان منها تنحية كبار الضباط السنة في مختلف القطع والتشكيلات العسكرية، وخصوصًا في أجهزة الأمن وسلاح الجو، ثم إنشاء أجهزة أمنية بقيادات علوية أحاطت بالمؤسسة العسكرية، وبالمجتمع السوري، إحاطة الحبل بعنق الواقف على مقصلة الإعدام، ثم التغيير الديموغرافي الهادئ، والخطير، الذي اتبعه الأسد، عبر إقامة مستوطنات علوية، غصت بجيش من الضباط والعساكر والموظفين المدنيين، في مرتفعات ومواضع استراتيجية في كبريات المدن كدمشق وحمص واللاذقية وحماة، وكذلك في مدن أصغر مثل جبلة وبانياس على الساحل.

لم يكتف بذلك، بل عبث بمناهج التدريس، وأنتج طبقة من العلماء كانوا يلقون في روع الناس، عبر وسائل الإعلام التي يحتكرها النظام بالكلية، ما يزيف وعيهم، ويستعملون النصوص والحوادث التاريخية بما يخدم مقاربة السلطة وأهدافها في الحكم والمجتمع، وتحولت مؤسسات الدولة، من جيش وأمن وشرطة ومؤسسات مدنية، إلى أوكار تخرج الفاسدين، بل المفسدين، وصارت الصلاة واللحية تهمة يحاسب مرتكبها في المؤسسات العسكرية، وشوّه الخطابُ الإعلامي والمناهجُ المدرسية أسماءَ طيف واسع من العلماء والمفكرين والدعاة في مراحل زمانية عدة، وانتشرت الرشوة والرذيلة ومختلف صنوف الفواحش في المجتمع السوري بشكل جنوني، برعاية السلطة ودعمها التي ابتكرت فنونًا ووسائل شيطانية في تفكيك البنية الأخلاقية للمجتمع السوري.

اتخذت بعض النخب الأقلية الأحزاب القومية واليسارية والديموقراطية، ستارًا للاستحواذ على الحكم، ثم مارست عبر هذه المؤسسات الحزبية وبشعارات براقة، واحدة من كبريات عمليات التزييف التي طالت وعي أي شعب، وقطعت علاقة السوريين بعقيدتهم، وأفسدت مفاهيمهم وتصوراتهم، بل صار الذين يتخرجون في المدارس والمعاهد والجامعات الدينية مشوشي الفكر والذهن، عدا عن ضعفهم العلمي وتواضعهم اللغوي. 

لذلك، كانت الثورة السورية ثورة حدية وجذرية، سعت لاقتلاع هذا الإرث السياسي والفكري المرهق، ونجحت إلى حد كبير في "إزالة" إحدى أهم أدوات هذه المنظومة المتسلطة على تاريخ السوريين وعقولهم، وهو الجيش، بضربه في العمق، وتفكيكه في سني الصراع، الأمر الذي استُدرك من خلال المنظومة الدولية، بعد سلسلة لقاءات بين (جون ماكين)، وزير خارجية الولايات المتحدة، و(سيرغي لافروف)، نظيره الروسي، اتفقا خلالها، عبر تصريحات رسمية، على رسم هوية سورية السياسية والفكرية، بقولهما: سورية ستكون دولة عَلمانية ديموقراطية، ولم يكن لهذا التدخل الدولي والتوافق أن يتم لولا أهمية الجغرافيا السياسية لسورية، ولولا الإدراك الدولي بأن نجاح الثورة بالصورة التي انطلقت بها، كان يمكن أن يشكل قاعدة انطلاق لتغيير جذري وعميق في المنطقة يهدد، وجوديًا، المصالح الدولية.

من أهم إنجازات الثورة السورية أنها كشفت طبيعة الصراع الدائر، وأماطت اللثام عن الجذور الفكرية والعقدية والثقافية لهذا الصراع، وأنها جردت النظام وحلف الممانعة من ورق التوت الذي كان يتستر به ويستميل من خلاله قلوب الكثيرين، فظهرت عورة مشروعهم الطائفي، وأظهرت الثورة بثباتها واستمراريتها، الدور الوظيفي الخطير والعميق لإيران وذراعها الطويلة في المنطقة: حزب الله.

الثورة السورية كانت سببًا في تغيير كل قواعد اللعبة في المنطقة، وبالرغم من الخسائر التي واجهتها الثورة في السنين الثلاث الأخيرة، وظاهرها فَقْدُ السيطرة على مدن وبلدات مهمة واستراتيجية، إلا أن الأهم من كل ذلك: أن الثورة ما زالت متجذرة في المجتمع السوري، وأن الخلافات البينية لم تطفئ جذوتها، والأهم من ذلك: احتفاظ الثورة بقوة صلبة مقبولة، ممثلة بجغرافية تحت السيطرة، وبفصائل مسلحة ومدربة ذات خبرات عسكرية وقتالية كبيرة، وبطيف واسع من العلماء والدعاة والمثقفين والإعلاميين ورجال الأعمال، تلعب اختلافاتهم البينية، وأحيانًا خلافاتهم العميقة، دورًا في ممارسة رقابة لصيقة على العمل الفصائلي، وتصحيح أدائهم بشكل أو بآخر.

وهي أيضاً أزالت قدراً معقولًا من الجهالة السياسية، ومن "الغرر" الفكري عن شريحة واسعة جداً من السوريين، وأنتجت عندهم حسًا نقدياً يمسُّ، بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى، أكبر الرجال والهيئات والأحزاب.

إن واحدة من أهم نتائج الثورة، أنها أزالت الستر وسلطت ضوء الشمس، الذي لا مهرب منه، على كل المشاريع الخفية التي تحاك للمنطقة، وعرّفت، من أراد أن يعرف، أسس الصراع وطبيعته، وبيّنت، أن في مرحلة مفصلية من الزمان، التقت مصالح أبناء القرداحة في سورية، وقم في إيران، والضاحية الجنوبية في بيروت، والنجف في العراق، مع مصالح موسكو وباريس وواشنطن وإسرائيل.

 

 

جهاد عدلة

إعلامي سوري

 
Whatsapp