تاريخ طويل من الاستبداد الامبراطوري الديني الطائفي القائم على الاضطهاد والاقصاء والتكفير والزندقة للطوائف الأخرى، والتي تم نفيها بعيدًا في هوامش وقلاع وجبال قفراً موحشة، حفر أخدودًا نفسيًا واجتماعيًا من الحقد والتربص المتبادل تحت قشرة من التجاور الجغرافي والمجتمعي الذي تفرضه متطلبات الحياة اليومية والمعيشية، تتحكم به سلطة قوية تحول دون الانزلاق إلى مواجهات إلا في بعض لحظات الضعف التي كانت تنتاب هذه السلطة.
هذا التاريخ الطويل من التجاور تحت سلطة من هذا النوع لم يكن ليدفع نحو جدلية من التفاعل والدمج بل على العكس كان يرسخ مع امتداد الزمان هذه الأخاديد والشروخ ويؤسس للمزيد من الانقسام والأحقاد ويمعن في تأجيج التناقضات.
استمر الأمر على هذا الحال من الإمساك بالتناقضات حتى نهاية الدولة العثمانية فكاد أن ينهار العقد الهش لولا دخول الاستعمار، وقد ظهر في مشروع التقسيم إلى ست دول كما عرفناه، وأعتقد أن فرنسا لم يكن لها مصلحة في ذلك.
إبان الاستقلال حافظ الكيان على توازنه مؤقتًا بفعل آليات البرلمان التي ورثناها من فرنسا، ولكن مع شدة التدخل الخارجي لدى كل طرف من أطراف المجتمع كاد التوازن ينهار، فتم الالتجاء إلى مصر الصاعدة لتكون الحكم والقوة القابضة، بدلاً من بني عثمان، وتمت الوحدة في هذا السياق لحفظ الكيان من الانهيار ويمنحه تماسكًا بعد ارتجاج.
لم يكن ذلك مناسبًا للقوى الكبرى فبدأت عملية الضغط واستغلال التناقضات لكيان الوحدة لحساب بعض الأطراف، وتم الانفصال وعاد الأمر إلى ما كان عليه.
لم يطل الوضع حتى حسم الجيش الأمر بالانقلاب والذي كان جيشًا في أغلبه من الأقليات الطائفية من أيام الاستعمار الفرنسي.
سقط النظام البرلماني نهائيًا لصالح الحكم العسكري الذي يستند إلى حلف من الأقليات تمثل باللجنة العسكرية السرية، التي خططت للانقلاب ضمن تحول دولي نوعي بانتقال السيطرة من أوروبا إلى الأمريكان الذين اتبعوا استراتيجية الانقلابات لتأمين السرعة في التحول والسيطرة لحسابهم، لأن النخب القديمة والتقليدية كانت أوثق ارتباطًا بأوروبا في كل المجالات.
الذي جرى يعتبر تحولاً تاريخيًا حيث لأول مرة في التاريخ الاسلامي تنتقل السلطة من الأغلبية السنية الحاكمة لمئات من السنين، وإن تغيرت أسماء العائلات من بني أمية إلى بني عثمان وصولًا إلى الأغلبية السنية في حلب ودمشق. الكتلة وحزب الشعب عبر الطبقة المدنية والتجارية والصناعية ونخبها الثقافية ورموزها المعروفة في النضال الوطني.
وكان انقلاب 1963 هو المدخل المباشر وتحت الرعاية الأمريكية لمأساتنا اليوم، لأن حكم الأقليات لا يمكن أن يستمر إلا بالقوة والنار للتحكم بالأغلبية السنية، إلا أن البداية كانت تحالفًا برزت فيه التناقضات فتمت التصفيات بين القسم العسكري للبعث والقسم المدني.
كذلك داخل القسم العسكري نفسه فتم إبعاد الدروز عبر سليم حاطوم ثم الإسماعيليين عبر الجندي وأحمد الأمير، ثم جناح علوي لصالح آخر، واستتب الأمر للأسد الذي اندفع بحقده التاريخي وقلقه الوجودي على نفسه وعلى الطائفة، ومن ثم العائلة لترسيخ دولة عسكرية أمنية طائفية بامتياز، أي تستند إلى العصبية الطائفية والعائلية وإنهاء البعث عمليًا وإبقائه ديكورًا أمام الشعب والعالم الحديث.
لعلها فرصه تاريخية لم يكن يحلم بها الأسد ولا طائفته للتنفيس عن كل الحقد المتراكم عبر ادعاء تاريخ طويل من النفي والتحقير من امبراطوريات السنة الحاكمة وسدنتها من رجال الدين الذين لا يرون هذه الطائفة سوى طائفة خارجه عن الملة والدين.
التغول في القوة والمال والسطو على كل شيء في المجتمع كان طريقه للتعويض عن كل ما فات ولضمان السلطة لهم إلى الأبد كما كان يردد ويقال.
موفق زريق
كاتب سوري