قبل تعلمي اللغة الألمانية وقدومي إلى فيينا للإقامة والسكن فيها، كنت أفضّل شرب القهوة الاسبريسو من محلات "الرجل" (Der Mann ) المتخصصة في بيع الخبز والمعجنات والشرابات، دون أن أعرف معنى بقية العبارة المتصلة باسم هذه السلسلة من المحلات المشهورة في النمسا، بقية العبارة بجانب الاسم التي تقول der verwöhnt لم أكن أعرف معناها ذلك الحين، وبعد تعلمي اللغة الألمانية في فيينا، ولكثرة ترددي على محلات بيع القهوة على الماشي، توطدت علاقتي بسلسلة محلات الرجل Der Mann دون غيرها، و على الأخص بعد اكتشافي لمعنى بقية العبارة في الاسم التي تعني "المدلل" der verwöhnt وبذلك تكون ترجمة اسم السلسلة حرفياً : الرجل المدلل.
كم فرحت ذلك اليوم الذي عرفت فيه معنى اسم المحل المفضل إلى قلبي، وعرفت لماذا فضلته وآثرته على بقية المحلات من قبل أن اكتشف معناه، إنه نوع من الإلفة بالحدس، إلفة لمكان عزيز أو وجه حبيب، نوع من تعارف الأرواح العسير الفهم، لهفة للماضي وللذة ذكريات العمر، حنين لطفولتي يوم دخلت المدرسة لأول مرة في حياتي، تذكرته اليوم بعد انخراطي مجدداً في صفوف الدرس، وتذكرت الطفل الذي كنت عليه في الأمس، ذلك الطفل الذي ينتظر رنين جرس المدرسة معلناً انتهاء الحبس، ويطلق سراحي لأخرج من أسوار المدرسة إلى ساحة الحرية في الشارع العريض بمحاذاة المدرسة / السجن، أنطلق بأقصى سرعتي حيث أسمع صوتاً يخترق فؤادي بسهم الحب، ينادي :
"مدلل يا ولد".
كنت أحسبه يعنيني دون كل الخلق، أركض نحو العم "أبو صالح طاهر قمند" بائع كعك جوز الهند والبرازق و"الكاتو" اللذيذ، أتأمل مأكولاته الشهية التي يعرضها في صندوق خشبي نظيف له واجهة زجاجية شفافة، ثبّته على عربة حمل الأطفال القديمة من فوق، وجعل مكان جلوس الطفل مستودعاً صغيراً خفياً عن العيون، يدفع العربة - مصدر رزقه - أمامه بحنوّ الأم التي رُزقت بطفلها الأول وعطفها، تناغيه و تدلّلـه بمحبة وخوف، يدللنا نحن أولاد المدرسة عوضاً عن "الخلفة" التي حرم منها، يسابق بقية الباعة ليأخذ مكانه في منتصف الشارع، بين مدرستي "الثورة للبنين" ، و مدرسة اختي "خولة" الأكبر مني "الثورة للبنات" في حي السكري بحلب في أول سبعينات القرن الماضي، و بذلك يكسب زبائن المدرستين المتصلين ببناء واحد و بسور عالٍ يفصل بينهما، لكنّ سور الفصل المدرسي الرسمي بين الجنسين سرعان ما يتهاوى على أرصفة الشوارع وفي ساحات اللعب، و نختلط صبياناً وبناتٍ في ألعاب ومشتريات ساعة الانصراف السعيد من الدرس فرحين دونما خوف، كأنما نحن في ساعة من ساعات الغفلة أيام العيد الكبير، أصل أحياناً قبل اختي خولة وأحياناً بعدها، يضحك في وجهي العمّ "طاهر" ذو القلب الطاهر، و يعرف لماذا تنتظر أختي خولة قدومي، ويمد لي يده بقطعة حلوى شهية دفعت ثمنها اختي، و يقول لي مبتسماً بلطف :
"مدلل يا ولد".
قد يسبقنا أخي "علاء" أحياناً أخرى فيشتري لنا ما نشتهي قبل نفاد بضاعة العم أبي صالح، حينها وبمجرّد أن يلمحني أبو صالح من بعيد، سيضحك في ويردد بصوت عال:
مدلل يا ولد، تعال.
رغم دمار مدرستي الابتدائية اليوم، وبالرغم من موت العم الصالح طاهر القلب "أبو صالح"، وبعد اختفاء عربته بين ركام الحرب وأنقاض البيوت المهدّمة، ما زلت أسمع صوته يناديني:
مدلل يا ولد.. معلّل يا ولد.
هنا في غربتي القسرية في النمسا وكلما دخلت أحد محلات "الرجل المدلل"، أرى وجه بياع "البرازق" الأسمر بسّاماً يعلوه الشيب، يركن عربة طفله "المدلل" مكان هذا المحل، ويذبّ الغبار والذباب عن شهيات الحلوى اللذيذة، وينادي تلاميذ مدرسة الثورة، أطفاله، الفقراء في حارتي التي دمرت ببراميل الحقد، يضحك في وجوهنا رغم كل القهر، وينادي بأعلى صوتٍ وأعذبه:
مدلّل يا ولد.
معلّل يا قلب.
جهاد الدين رمضان