ما لا يعلمه الكثيرون من أبناء أمتنا بأن اتفاقية (سايكس - بيكو) انتهت فعلياً بمجرد انسحاب دول "الانتداب" من المنطقة ...! فبعد فقدان كل من فرنسا وبريطانيا قوتهما الطاغية بدأتا بالانسحاب من "الدول" العربية، والتي أعلنت استقلالها تباعاً، والغريب أنه وبالرغم من انتهاء مفعول الاتفاقية، إلا أن الحدود التي رسمت للدول العربية ما زالت قائمة بشكل مشابه إلى حد كبير للتقسيم الذي طرحته الاتفاقية آنذاك ولأسباب لم تعد تخفى على أحد.
من الصحيح القول بأن المستعمِر غادر، لكنه ترك من أهل الديار من ينوب عنه ممن وظفهم لتلك الغاية. ونحن حين نصف أنظمة المنطقة بالوظيفية يظن البعض أننا نقلل من حقيقة شأنها أو ننعتها بتلك الصفة لمجرد الشتيمة، والأمر ليس بتلك البساطة والسطحية فنحن نعي وندرك ما نقوله.
إذا عدنا إلى بداية تشكيل بعض تلك الأنظمة العربية عموماً والخليجية بشكل خاص نرى بأنها قد تأسست في ظل احتلال بريطانيا وفرنسا لمعظم المنطقة، فبعد أن اجتاحت حملاتهم منطقتنا العربية وأسقطت الخلافة العثمانية بمشاركة ومباركة "أدواتهم المحلية" تم تأسيس وصناعة تلك الأنظمة، ويعلم كل ذي بصيرة أن تلك الدول لم تُأسَّس بناء على إرادة الشعوب إنما تمَّ استزراعها من قبل الغرب، حيث انبرى وزير المستعمرات "تشرشل" حينها بعقد مؤتمرات متتالية ابتداءً من العام ١٩٢٠ ليقوم برسم الحدود وصياغة البنود وليستكمل ما تم الاتفاق عليه عام ١٩١٦ بين "مارك سايكس"
و"فرانسوا بيكو" والتي عرفت فيما بعد باتفاقية (سايكس - بيكو) وعملا على تعيين عملائهم ليتسلموا مهامهم الوظيفية التي حُدّدت لهم في الحفاظ على النهج الذي تم رسمه لتلك الدول الوظيفية المصطنعة، وحتى بعد "استقلال" دول المنطقة عن الانتدابات والاحتلالات لم يمثل الاستقلال آنذاك سوى خروجًا عن الاحتلال العسكري المباشر، أي أن ما تلا مرحلة "الاستقلال" هذه لم يعبّر مطلقاً عن استقلال سيادي بالمعنى الكلي، فالعنوان الرئيس المفترض للاستقلال السيادي هو الاستقلال السياسي بكل أبعاده، وليس استبدال احتلال عسكري مباشر باحتلالات سياسية وفكرية واقتصادية غير مباشرة ، وما حصل فيما بعد من انقلابات عسكرية في بعض تلك "الكانتونات" سمي بعضها ب "ثورات" لم تخرج عن نطاق تلك الوظائف المحددة إنما هي استكمال للمخطط بظروف ومستجدات فرضت نفسها في مرحلة من المراحل لا أكثر ، فكان لابد من تغييرات شكلية متفق عليها لتمتص حنق الشعب، وتحافظ بذات الوقت على النهج الذي رُسم لأنظمة تلك الدول.
لاحظنا مع بدء ثورات "الربيع العربي" تهافتاً واضحاً لتلك الدول الفاعلة بتدارك المشهد وفقاً لسياسة الاحتواء المزدوج فكلما سقط نظام من تلك الأنظمة أبرزوا نظاماً آخر ليؤدي نفس الدور الوظيفي لسابقه وليجهض أي محاولة تتعلق بإرادة الشعب وتطلعاته المشروعة. وما التهافت والتكالب الدولي الذي وقف بوجه الثورة السورية إلا دليل دامغ لاعتراض تلك الدول على التغيير الجذري المحتمل في طبيعة إحدى تلك النظم (مسبقة الصنع) والذي إن حصل يكون قد أسّس لانهيار الحجر الأول من أحجار "الدومينو" المتكامل الذي سوف يقلبُ بانهياره باقي الأحجار، وهذا ما لا يسمح به الغرب، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وضمن سياق استراتيجياته للمنطقة.
محمد علي صابوني
كاتب سوري