التأويل وتنازع المعنى


 

                                      

 

هل نقرأ لنفهم ونتعلم ونتّعظ، وهل مهمّة النصّ الأدبي تهذيب الحواس وإلهاب المشاعر في إطار من المتعة العقليّة والحسّية، أم إن قراءة النص باتت لها مهام أخرى تتجاوز كل ذلك إلى التحريض الجماليّ والفكريّ، وإلى الاغناء الثقافيّ والفلسفيّ، وإلى بناء رؤيتنا الفرديّة للعالم وموجوداته، وبالتالي إعادة إنتاجنا لمعرفة ومعان تخصّنا وحدنا، تذوب في منظوماتنا الذاتية، وتعود من ثمّ لتأخذ حيّزها في بنائنا المعرفيّ والشعوريّ والسلوكيّ؟!.

حرّية القارئ وتعسّف النصّ 

تتجه إرادة الناصّ، غالباً، إلى توجيه رسالة إلى قارئه ذات مضامين محدّدة، وأيّاً كان الأسلوب، خطابياً بسيطاً مباشراّ وربما صادماً، أو غامضاً معقّداً قد يصل إلى درجة الإبهام، فإنّ الكاتب يراهن على حواس المتلقي، في القبض على مقولاتٍ وأفكار ومقاصد بعينها، حمّلها مكونات نصّه وأراد لها الوصول.

تنتهي سلطة الكاتب لتؤول إلى النصّ فور انتقاله إلى وسائل النشر حيث يغدو مشاعاً متاحاً للمتلقي، ومباحاً لخياراته في التناول والتداول والتأويل.. وتتبدّى سلطة النصّ، سواء كان مفتوحاً أو مغلقاً، في ريبيّاته وفي يقينيّاته، وفيما يحمل من قراراتٍ وأحكام بين سطوره، وفي رموزه ودلالاته وصوره، وفي غير ذلك مما في أنساقه وبناه اللغوية والبلاغيّة. 

بل إنّ النصّ محمولاً على أجنحة اللغة والمجاز والتخييل قد يطغى على قارئه، ويجنح إلى التمنّع والتضليل والإغواء، ويمارس عسفاً مقصوداً يتحدّى ذكاء القارئ وقدرته على استخدام أدواته في التحليل والتفكيك والتركيب، وصولاً إلى إيقاعه أسيراً في فخّ فهم محدّد لفحواه وتمثّله.

تبدو مواجهة القارئ مع فتنة نصّ آسرٍ بمكوّناته الإبداعية أشبه بالمغامرة الصعبة. لن تكون مجرّد نزهة في بستان مترف بألوانه وثماره الزاهية، سيكون لعبير زهوره خدر الخشخاش، ولندى عشبه بريق السراب، وستمتلئ أوديته وذراه بالكمائن المزركشة، وسيغدو، في ظلّ الانبهار بالسحر، البحث عن معنى محدّد بصفاته انقياداً إلى شرك منسوجٍ بعناية المبدع الحذق.

إنّ التمرّد على سلطة النصّ الإبداعيّ لا يعني هجره أو الإغماض عن مفاتنه، وعن مكامن الدهشة في معارجه وامتداداته، كذلك فإنّ ممارسة التلقّي والتأويل لا تدعو للانكفاء إلى أحكام ومعايير مسبقة، فالرغبات المقيّدة للمخيلة تصادر حرية المتلقّي في اكتشاف ممكنات النصّ، وتمنع رؤية المعاني المتنازعة في بؤرته. إنّ خوض غمار النصّ واقتطاف لذائذه يحتاج إلى بناء علاقة معه مؤسسة على الحبّ، فبالرغم من سطوة الجمال إلا أنّه لا يضمر الرغبة في استعباد عاشقه أو تبليد حواسه. كذلك فإنّ تأويل النصّ الإبداعيّ يتعدّى التفسير والشرح إلى تجريده من إطلاقاته ومن أحاديّاته، والانتقال من ظاهر مقولاته إلى الخفيّ منها، وإلى تقصّي إرادة الناصّ والبحث عن ممكنات المعنى والحقيقة في النصّ، وإلى تغليب أحد المعاني المتنازعة في خلجاته.

"التأويل قراءة ودودة للنصّ" عبارة تنسبها ذاكرتي البعيدة إلى عمرو بن بحرٍ الجاحظ قالها في معرض حديثه عن شهوة القول والافتتان بما نسطره إبداعاً. لا بدّ إذاً لافتضاض جسد النصّ، إن نحن تبنينا مقولة الجاحظ، من خلق وشائج وصلات موجبة معه، تدفع به لتسليم مفاتيحه وإظهار كنوزه، إنّ الاستغراق في النصّ الأدبيّ والحوار معه يحتاج إلى الانفتاح على مقولاته والقبول بما تطرحه من رؤى وأفكار مخالفة، وهي ليست ملزمة بالطبع. أتساءل أخيراً: لماذا نصرّ على التعامل مع بعضنا بمنطق الحصيف المستريب، أليس الإنسان بمعنى ما أو أكثر نصّاً إبداعيّاً يحتاج إلى ثقة القارئ، وإلى تأويل كل ما يصدر عنه من قول أو سلوك من منطلق الودّ؟. 

 

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp