ضمن أقنية العلاقات الدولية تتعدد الأبعاد والمحددات الأساسية، التي تحكم سير العلاقات بين الدول، ومن أهم هذه الأبعاد، السياسي، الاقتصادي، الأمني، الثقافي والاجتماعي، ولكل بعد من هذه الأبعاد أهميته في التفاعلات والعلاقات التي تقوم بين الدول.
مع الحديث عن تاريخ العلاقات بين روسيا وتركيا، نلاحظ أنها كانت علاقات قائمة على التباين وتضارب المصالح. أثناء الحرب الباردة شكلت تركيا تهديدًا كبيرًا للاتحاد السوفياتي من خلال تواجد القواعد العسكرية للناتو على الأراضي التركية، وبعدها عملت روسيا على دعم حزب العمال الكردستاني كرد فعل على السياسيات التركية تجاه روسيا، فيما وقفت تركيا سياسيًا إلى جانب الشيشان أثناء الحرب الروسية عليهم، وأيضًا هناك خلاف كبير في سياسات الدولتين تجاه دول الجمهوريات التركية، حيث ترى تركيا أنهم الامتداد لتركيا ثقافيًا وجغرافيًا ، فيما تعتبرها روسيا ضمن نطاقها الجغرافي القريب، وهذه الدول كانت سابقًا ضمن الاتحاد السوفياتي. وقد كان الخلاف الأكبر بين الدولتين أثناء الحرب الروسية على جورجيا بحجة دعم سكان مناطق أوستيا وأبخازيا الذين يتكلمون الروسية، حيث وقفت تركيا إلى جانب الدول الغربية ضد الحرب الروسية على جورجيا، و لكن هذه الحرب كانت ضد المصالح التركية والأوروبية في تمديد خط أنابيب نابوكو، حيث كان من المفترض أن يمتد خط أنابيب من دول بحر قزوين إلى دول غرب أوروبا، والآن المشروع سوف يضر بالمصالح الروسية في أوروبا، حيث عملت روسيا على عدم تنفيذ هذا المشروع من خلال الدخول في حرب على جورجيا، التي كانت الدولة التي سوف يمر منها خط الأنابيب المتجه إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. ومن أهم الخلافات بين تركيا وروسيا هو الخلاف حول عدة سياسات تجاه المسألة السورية، واختلاف مصالح الدولتين وتوجهاتهم ونفوذهم في سورية، حيث ترى تركيا تنحي نظام الأسد عن السلطة والبدء في مرحلة انتقالية ضرورة لإنهاء الحرب في سورية، فيما ترى روسيا عكس ذلك تمامًا، بعدها دخلت الدولتان في عدة تفاهمات وتسويات في الحرب السورية.
لكن البعد الاقتصادي كان له الدور الكبير في خلق علاقات دبلوماسية قوية بين الطرفين، وشكلت عمليات التبادل التجاري نقطة فارقة في التقارب السياسي. فقد بدأت تركيا في تصدير القطع الجاهزة إلى روسيا، وبالمقابل ارتفعت نسبة استيراد تركيا من موارد الطاقة الروسية بنسبة كبيرة جدًا وخاصة بعد فرض العقوبات الاقتصادية على قطاع الطاقة في إيران، وانخفاض الاستيراد من العراق بسبب المشاكل السياسية والأمنية التي تحصل هناك. وبسبب أن تركيا ثاني أكبر مستورد للطاقة من روسيا، أنشأت الدولتان خط أنابيب التيار الأزرق لتضخ لتركيا سنوياً 16 مليار متر مكعب من الغاز. وعملت روسيا للتوقيع على اتفاقية مد خط أنابيب الغاز (السيل التركي) الذي يمر من تركيا وسوف يتجه إلى دول جنوب أوروبا، وكأن هذا المشروع ردًا على الأزمة الاوكرانية الروسية، إذ تعمل روسيا على أن تكون تركيا الجسر لعبور خطوط الطاقة إلى أوروبا بدلًا من أوكرانيا، ورحبت تركيا بهذا المشروع لأنها ترغب في أن تكون أحد أهم أسواق الطاقة العالمية. ومشروع السيل التركي هو الآن قيد التنفيذ ولم ينته بعد، ولأهمية هذا المشروع للطرفين ولأهمية تركيا بالنسبة لروسيا، لم ترغب كل من الدولتين أن تتأثرا علاقاتهما بشكل سلبي بعد أحداث إسقاط الطائرة الروسية على الحدود التركية السورية، وعند حادثة مقتل السفير الروسي في أنقرة، بل سعت الدولتان إلى تمكين العلاقات السياسية من خلال صفقة صواريخ أس 400، ومن خلال استغلال حالة الفتور بالعلاقات التركية مع الدول الغربية.
تتباين التوجهات والسياسات بين روسيا وتركيا بشكل كبير في الكثير من القضايا في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة بحر قزوين، وسواحل البحر الأسود، لكن البعد الاقتصادي له الأثر الأكبر في خلق علاقات قوية بين البلدين، خاصة بعد الحرب الاقتصادية التي قامت بها أميركا على الاقتصادات الصاعدة، مما أدى إلى ذهاب تركيا نحو الشرق. لكن هذه العلاقات تحكمها المنفعة الاقتصادية، ولا يوجد بين تركيا وروسيا أي علاقات استراتيجية مثل علاقاتها بالناتو الأكثر عمقًا ومستقبلية.
حسن الشاغل
كاتب سوري