قد لا يريد الإسلام إقامة مجتمع ملائكي، بل تخليص النفس الإنسانية من أدرانها، وتهذيب نزعاتها العدوانية، وشهواتها الأنانية وأهوائها الذاتية، لذلك جاء بعقيدة قوية تسد مسداً عظيماً في هذه الجبهات، ورتب الحساب على رسوخ هذه العقيدة واستحكامها في القلب من عدمهما، وعلى التطبيقات العملية لتلك العقيدة بتفصيلاتها وفروعها في حياة المؤمن: قولًا وعملاً.
تجد رجلاً جاوز عِقده السادس، وصار إلى آخرته أقرب من دنياه، يصلي الفروض الخمسة في أوقاتها، وألِف لسانه آيات القرآن يومياً، ويصوم من النوافل، ولا ينزل ذكر الله عن لسانه، لكن تلك الأعمال تمازجها شهادة زور، أو المشي فيها، أو الحض عليها، والكيد في العمل لزملائه، وعنصرية تظهر في فلتات لسانه، وفي زلاته.
وشاباً فتياً، مقبلاً على الحياة، محافظاً على عباداته، إلا أن الكذب على لسانه مثل ملح الطعام، بل إنه يريق دينه ورجولته بكذبة لأتفه الأسباب مع قدرته على الاستغناء عن ذلك، ويجعل من كذبه سبباً في رزقه، ومدداً لبقائه في مكانه.
وترى ثالثاً من هؤلاء المصلين والصائمين والذاكرين، يتفنن في سرقة الوقت من عمله لمنفعته الشخصية، ويتراخى في أداء وظيفته بما يؤذي زملاءه في أعمالهم ونفسياتهم، فلا يقوم بواجبٍ إلا مُكرهاً، ولا يعطي عمله حقه، في حده الأدنى، إلا تحت سيف العقوبة.
ورابع يجاهر بانتمائه الإسلامي، و"يطنطن" آذان الناس بالحديث عن المقاومة والمشروع الإسلامي، ومواجهة العدو الغاصب، بينما تتجلى أخلاق العصبية الجاهلية، في أوضح مظاهرها، في علاقاته بزملائه، فينحاز، قلباً وقالباً، لابن بلدته حتى لو كان عديم الكفاءة ضد ابن بلد مجاور حتى لو كان أكثر كفاءة، ويترتب على هذا الانحياز مواقع إدارية، وحوافز مالية، ومكانة عملية، ووجاهة اجتماعية.
وخامس يمتلئ قلبه حسداً، فيسيل غيبةً وأكلًا في لحم أخيه إذا ما وجد منه فائض نشاط في العمل، بل تخفق عيناه في إخفاء وقاحة هذا الحسد وفجوره.
وآخر يحارب ويصالح، ويحب ويبغض، ويوالي ويعادي في شقيقه أو ابن عمه، وليس في الله، عصبية وعاطفة جاهلية، بالرغم من "محاضرته" لمن حوله في الإيمان والولاء والبراء.
هؤلاء جزء من كل عاينته على امتداد عملي الطويل في المؤسسات السابقة التي عملت فيها، وشاهدت بعيني كيف تغيب عقائد الناس عن أفعالهم، وكيف أن قوماً من هذا النوع توحي أفعالهم أنهم يصلون لإله ويعبدونه ظانين أنه يموت بموتهم، وأن لا لقاء لهم به بعد فراقهم الدنيا، ولا حساب له عندهم، ولا ميزاناً ذرياً أعده لهم يضبط به أقوالهم وأفعالهم، وسكناتهم وحركاتهم، قوم أَمِنوا ما بعد الموت، فاطمأنت قلوبهم لوساوس النفس والشياطين من الجنس والإنس.
هذه المشكلات الاجتماعية، والأمراض الأخلاقية، ليست قضية فرعية، ولا مسألة هامشية، بل هي رجع صدى صرخة إسلام مغيّب عن الحياة، ومتقاعد من عقول المسلمين ووعيهم ووجدانهم، بإرادة ذاتية منهم، أكثر مما هو مؤامرة عليه من غيرهم، وهي تمثلات فردية يومية لحالة عامة، تلف العالم الإسلامي، تبدو مستعصية وسط نخب إسلامية تتجافى جنوبها عن مقارعة لهاث النفس.
جهاد عدلة
إعلامي وكاتب سوري