حنين لا يشبه الحنين


 

 

لم يحلم السوريّ يوماً بشيء قدر حلمه بوطن، وطن ينثر على ذراه حزن أسلافه فيرشقه بضحكات الأطفال، ويسقيه قلق روحه وسخط أبنائه عليه فيطعمه الطمأنينة والرضى، وطنٍ يتوسّد اسمه كغيمة ويحمل شارته وشما على جبين يضيء بزهوّ الانتماء، وقلبٍ يشرئبّ للحياة والفرح. 

مفارقة مريرة ومؤلمة أن يحلم السوريّ بالوطن وهو في بلده، في المكان الذي يشكّل مادّة حلمه، بمن يفترض أنّه معه وفيه وحوله، بمن يردّد اسمه كلازمةٍ صباحيّة، ويحمله كوسمٍ محفور في لغته المستهلكة، وفي تلافيف دماغه المرهق بالتناقضات وبفوضى الأسئلة الموجعة.

هل يمكن أن ترفض وطناً وتتشهّى صورة له لا وجود لها سوى في مخيلتك، أن تنكر أنوثة امرأة حاضرة بتفاصيلها وطاغية بفتنتها وأنت في غفلة عن وجودها توقد الشموع وتحرق البخور، وترفع يديك تضرّعا إلى مبدع الخلق ابتغاء حضورها المحتمل.

حنين السوريّ لا يشبه الحنين. هو كذلك الذي يتوق إلى ذاته المضيّعة في أرشيف مهمل، أو كمن يسعى لاستعادة اسمه بين أنقاض حكايات مات مؤلفها، إنّه البحث عمّن لم يلتق به ولا يعرفه، لكنّه يرى ملامحه في عيون من حوله، ويستشعر صوته في أغاني الصيّادين وقاطفي القطن والزيتون.

لا أحد يمكنه قتل الحقيقة ولا أن يسرق الحلم، لا أحد بمقدوره أن يرث ما لم يملكه أب له وأجداد، لكن الطاغية وخفافيش الليل بمخالبهم الحادّة وأنيابهم المسمومة استطاعوا إدماء عيون البسطاء، وزرعوا في مرآة عقولهم صورة مشوّهة وباهتة لخارطة ثكلى، فزيّفوا سجلّ سوريا الخالدة أبد الدهر، وزوّروا اسمها لتكون ملحقاً باسم عائلة متوحشة مجهولة الهوية والنسب لم تكن يوماً تنتمي للوطن وأبنائه، ولا للمبادئ والقيم، ولا للإنسانية. 

ليست أحجيةً غربة السوريّ في وطنه المنكوب بمغتصبيه وسارقي خيراته وقاتليه، ففي سوريا المحتلة من حاكمها الغريب تصبح العبوديّة شرطاً للهويّة، وأن يتحول الإنسان إلى سماد متعدّد الوظائف والاستخدامات، أو ربّما إلى كائنٍ مستنسخ عن خليّة أحاديّة لا تقبل الاندماج أو التطوّر. تلك إرادة المحتلّ التي ستفشل حتماً، لكنّ الفشل هنا لا يعني انتصاراً كاملاً في الجانب الآخر، فستتحول إرادة الطاغية إلى قتل الخصم بدلاً من تدجينه واستعباده، والبعض ممن لديه نقص في المناعة ضدّ التدجين، وتتغلب على إنسانيته قابليّة التكيّف والتلوّن الحربائيّ سيغدو وقوداً في ماكينة التدمير، وسيكون الضحيّة شعب ووطن، وسيكون على الضحيّة الإنسان أن ينجو من المحرقة، أن ينهض من رماده ليلمّ شظايا صورته المبعثرة، ويستعيد حقّه وحقيقته.

يا لقهرك أيّها السوري وأنت تحتضن مقصلتك وتصرّ على الوجود والحلم في عالمٍ أغمض عن مأساتك ويشارك بكلّ جوارحه في وأد صرخة ألمك. يريدون موتك وأنت تبتغي الحياة لك ولمن استطاع أن يرتدي ثوبه خالياً من بقع الدم.

يا لبؤسك أيها العاشق وأنت تطارد الحبّ الذي لم ينتبه إليك، وتكابد أمواج الكراهية والحقد ممن هو في وجدانك وعقلك، لكنه الحب ينتظر قدومك دون سابق إشارة أو موعد، كائن سويّ ليس خصماً لأحد، ولا طرفاَ في شجار أو حرب.

يا لجبروت روحك أيها السوريّ الناجي من الاقتلاع ومن كلّ أشكال الإبادة والموت، وأنت تحمل فجرك بين أضلاعك المثخنة وتمضي إلى الطرف الآخر من الليل، ثمّة ضوء في القلب، وثمّة عناق ينتظر عند المنعطف الأخير لعربات الباحثين عن مدينة للسلام والحبّ، لا سقوف لها ولا أسوار.

 

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 

Whatsapp