بدأت السماء بإفراغ أحمالها الثقيلة بعد نهاية خريف كئيب، الأشجار أيضاً نفضت عن كاهلها أوراقاً كانت فيما مضى خضراء ندية، لكنها استحالت إلى لون التراب. تعبق برائحة المطر أرجاء الأمكنة ومسام الحواس، ويتسابق الأطفال ليستحموا بهذه المياه الربانية. ها قد حلَّ الشتاء وأُخرجت الألبسة الشتوية من الخزانات، موسمٌ جديدُ سيأتي والجميعُ، كباراً وصغاراً، متجهزٌ ليقول: أهلا وسهلاً بفصل الخير.
يا لماضينا الجميل قبل أن تحلّ لعنة الطغيان، كانت البساطة منبع السعادة، وكان الجار قبل الدار، وكان أبسط حدثٍ أو ذكرى مناسبة للفرح تجسدها الجارات بلمّة جميلة تخلو من الأحقاد و من التكلف والكبر..
كنا ننتظر خطاباً جماهيريا مفعماً بالأمل لقادة مؤثرين تمتلئ قلوبهم بحبّ الوطن والناس..
كنا نفتش عن الموجوعين كي نزيل ألمهم، نحزن لحزن أحدهم، ونتصدق على المحتاج دون طلبٍ منه ولا منةً عليه..
و كنا نحزنُ ونتألم لموت أحدهم، أو لحادثة مؤسفة وقعت في أرض بعيدة، لأناسٍ لا نعرفهم ولا نعرف دينهم ومذهبهم، بل قد لا نعلم شيئاً عن بلدهم أو اسم دولتهم الغريب، ما نعرفهُ فقط هو أنهم بشر من لحمٍ ودم وعظم، ومن نفسٍ لها أحاسيسها ومشاعرها وروحٍ بثها الله فيهم..
كان الأولاد يلعبون ويتراكضون نهاراً في الساحات، لا يوجد أحدٌ مختبئٌ في حضن أمه، ولا في كهف ذاته المظلمة القلقة..
اقتحمت التكنولوجيا عالمنا وخلطت بين الواقع والوهم، جعلتنا لا نستطيع التمييز بينهما، فتجردنا من إنسانيتنا، أغرقنا المتحكمون بهذا العالم بأوهامٍ وقيم مستحدثة، واستفردوا هم بما يحقق مصالحهم ومآربهم.
لم يعد للخريف معنىً و أصبح العمر وقتاً يمضي و أيام تتكرر، أصبح الناسُ يزورون بعضهم البعض عبر رسالة على الواتس ربما على أبعد تقدير..
الأطفال يلعبون بهواتفهم ولا يرون وجه الشمس، لا يشعرون بإشراقها ودفئها ولا يدرون إن هي غربت..
الأخبار ذاتها تتكرّر، حروبٌ و قتلٌ وموت، و ضحايا تعذيبٌ واضطهاد..
أصبحنا نفتش عن شيءٍ يجلب السرور إلى النفوس المتحطبة، وعمّا يمكن أن ينسينا الواقع المرير، وعن فضاء يخرجنا من أنفاق أستانا و سوتشي وجنيف..
الأحاديث السياسية أصبحت باليه والخطابات الرنانة تثير الخوف والغثيان، أما الثقة فقد باتت منعدمة..
أُوقظت العنصرية والفتن ولم يعد هناك من قيمة للإنسان، وارتبطت منزلته بما يملك من قوة وسلطة ومال.
لعلنا غافلين إذ نظنّ أن لعبة "ببجي" التي يتقاتل ضمنها الناس ليبقى فريقُ واحد منتصر هي مجرد لعبة و ليست حقيقة، و أن الناس الذين قُتلوا بمئات الآلاف ليسوا مجرّد أرقام..
ذهبت رهبة الموت وهيبته من قلوبنا، فما الموت الا عودة للروح إلى بارئها..، أما إنسانيتنا إذا ماتت فمن يعيدها.
أحمد همام الراغب