الواقع السوري في ظل دولة بني أسد


حدث زلزالٌ مدمّر عام 1999 في منطقة أزمير التركية، أدى إلى خرابٍ هائل ومقتلِ عشرات الآلاف، وحين اضطربت الأحول لجأت الدولة إلى فرض الأحكام العرفية هناك لضبط الأمور. 

بقي القرار سائداً عشرةَ أيام، فضجَّ الناس وأخذوا يطالبون بإلغاء تلك الأحكام، فكان لهم ما أرادوا. 

في سورية حدث عام 1963 انقلابٌ عسكري على حكم الانفصال، واستلم حزب البعث مقاليد الأمور تحت شعاراتٍ رنانة، وكان من أولى القرارات إعلان الأحكام العرفية.  

في حرب حزيران/ يونيو 1967 انهزم "الجيش السوري العقائدي"، وبقيت الأحكام العرفية، ثم في سنة 1970 أراد حافظ الأسد، وزير دفاع الجيش العقائدي، أن يصحح انحرافات "الرفاق" البعثيين، وبدلاً من ذلك راح يدمر وطناً ليبني عرشاً، وبقيت الأحكام العرفية جاثمة على صدور العباد حتى وفاته عام 2000. 

ثم جاء بشار كوريث شرعي!! وبقيت الأحكام العرفية، وكأنها قدر لا يحُول ولا يزول. 

قالوا عنه: شاب مثقف ثقافة ديمقراطية، عاش في بريطانيا أُمِّ الأعراف القانونية والاجتماعية، وهو مُقبل على عملية هائلة من التحديث والتطوير!!، وأنا (بصراحة) كنت واحداً ممن صدقوا ذلك، لاسيما بعد أن خصّصت صحيفتي "تشرين" و "الثورة" السوريتين صفحتين أسبوعيا للتحاور بين المثقفين عبر مقالات منفتحة، وكنت واحدًا ممن ساهموا بأكثر من مقالة.  

لم يطل الأمر حتى انقلب "الوريث" على ثقافته الغربية المكتسبة، واتّبَع سيرةَ أبيه الأولى ولكن بخطوات عشوائية رعناء.  

ثم أقبل الربيع العربي، وانجذب الشعب السوري إلى ذلك الربيع الواعد. في البداية كانت مطالبُ الشعب متواضعة، وانحصرت في مطلبين اثنين فقط، هما إلغاء الأحكام العرفية، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور، والتي تنص على أن البعث هو الحزبُ القائد. 

 بحسب بعض الآراء السائدة آنذاك، كان يمكن للوريث أن يحقق للشعب هذين المطلبين، فربما تسير الأمور على خير دون أن تنزلق البلاد إلى الهاوية. لكن الدولة الأمنية العميقة لم تقبل بذلك، فتحقيق هذين المطلبين يقلّل من هيبة تلك الدولة، وعندهم الشعب طمّاع، والطمّاع (ما بينعطى وجه)!! وإن حققنا له هذين المطلبين، فسوف يقول هل من مزيد.!؟ ولذلك رفعوا شعارَ "الحل الأمني". 

وبدأ الشعب يطالب بإسقاط النظام. وبدأت البارودة تشتغل بهمة ونشاط، حتى وصلت إلى القصف بالطائرات والبراميل المتفجرة والصواريخ العابرة للمحافظات!! 

حدث ما حدث. لكن بشار في النهاية حوّل سورية إلى جارية تباع وتشترى في سوق النِّخاسة. 

بداية الثورة تَنادى العالم ليتضامن مع الشعب السوري، فاجتمعت مئة وثلاثون دولة، ليشكِّلوا ما سمَّوْه "أصدقاءَ الشعب السوري"، وراحوا يلعبون على الحبال، وكأنهم في حَلْبَة سيرك صينية.

انعقد مؤتمر جنيف1 وانعقدت معه الآمال، ثم تحول إلى جنيف2 وثالث ورابع، إلى أن مات جنيف وشبع موتاً. 

وهنا نتذكر عبارة وزير خارجية الأسد المعبرة: "سنغرقهم في التفاصيل". وفعلاً غرق الشعب السوري في التفاصيل.

بعد جنيف جاء مؤتمر سوتشي، ثم مؤتمر أستانا حتى أستانا الثاني عشر. ونجح العالم المنافق في تحويل دفّة السفينة من الانتقال السياسي إلى الحرب على الإرهاب، وغرقت البلاد في سيل من الدماء. لكن جُزءً من مليون جزء من التفاصيل يشير إلى تدمير ثلاثة أرباع سورية ومقتل أكثر من مليون سوري، بينهم أكثر من مئتي ألف قتلوا تحت التعذيب، وتبعثر عشرةُ ملايين إنسان وأكثر في القارات الخمس. 

هذا هو ثمن المطالبة بإلغاء الأحكام العرفية والمادة الثامنة من الدستور. بالطبع لم ننسَ ديمستورا وسِلالَه الملأى بالألاعيب الخبيثة، وآخرُها سلةُ الدستور التي راحت الأيدي تتقاذفها منذ سنتين. من ديمستورا إلى سلطة الأسد إلى المعارضة إلى موسكو. ولا تزال الأيدي تلعب بكرة السلة أعني بكرة الدستور! 

مضت سبع سنواتٍ، و "محفل" الدولة الأسدية لم يتنازل للشعب السوري عن أي شيء أبداً، سوى الدعوة إلى محاربة الإرهاب.!! 

بعد السبع العجاف جاءت لعبةُ الدستور، ومضت سنتان حتى حدث الإنجاز الأعظم.! !، وهو مجرد التوافق على أسماء اللجنة التي ستصوغ الدستور، وعددهم مائة وخمسون مخلوقاً، هم أشبه بأقطاب مغناطيسية شديدة التنافر. 

وهنا ألا يحق لنا أن نتساءل؛ بعد كم سنة يا ترى ستتم صياغة الدستور، وبعد كم سنة سيتم الاتفاق على تطبيقه.!؟ هل على زماننا، أم على زمان أولادنا أم على زمان الأحفاد.!؟ ثم من يضمن أن لا "يلتهم الحمار" هذا الدستور، وهو جنين في بطن الملابحات المتواصلة بين الأقطاب المغناطيسية المتنافرة.!؟ 

إن الهرولة نحو تصنيع الدستور ينطبقُ عليه المثل الشعبي: عمَّروا المعلف قبل أن يشتروا الفَرَس. العالم ينشغل الآن بالمعلف، والفرس في عالم الغيب. 

كان من الضروري التمسكُ والمطالبة بانتقال سياسي، وبعده يبدأ العمل على إنجاز الدستور المناسب، وما أهونَ الإنجاز عندئذ. لكن الهدف من وراء تشكيل الدستور هو اللعِبٌ على اللحى وتدويخ العقول، فقد تم إغراقُنا في التفاصيل فعلاً، كما توعّد "الثور السمين"، وتحوّل الأمل إلى حلم ثم إلى مجرّد وهمٍ صعبِ التحقيق. 

وأقول: على الشعب السوري، بالرغم من واقعه الأليم، بل والأشد إيلاماً، أن يعود إلى النقطة التي انطلق منها، وهي السعي لتحرير الوطن من مغتصبيه عبر المطالبة بحكم انتقالي مدني ديمقراطي. وهذا ليس عصياً على التحقيق أمام إرادة شعب، يصر على عدم الاستسلام.

 

عبد الرحمن عمار

كاتب سوري 

 

 

 

Whatsapp