عصافير عدة أرادت أنقرة اصطيادها في عملية (نبع السلام)، فالخطاب المعلن، على ألسنة كبار الساسة والعسكريين الأتراك، هو إقامة منطقة آمنة مهيئة لاحتضان أكثر من مليون لاجئ سوري في تركيا، وإبعاد شبح المليشيات الكردية التي تؤدي دور رأس حربة مسلط على أمنها القومي، وفيها مآرب أخرى منها استعمالها غربياً في تقليم أظافر تركيا الساعية إلى بناء استقلالها السياسي والاقتصادي والعسكري، الذي سيشكل عام ٢٠٢٣ تحولًا مفصلياً فيه، على الأقل كما تخطط القيادة السياسية التركية.
تلك جملة من الأهداف التركية المعلنة، لكن ثمة ماهو مسكوت عنه في هذه السردية السياسية، تشكل في رحم حدث سياسي داخلي، شكل منعطفاً مهماً في المشهد السياسي الداخلي، وأثار حميّة القيادة التركية ودفعها إلى أخذ خطوة واسعة باتجاه شمال شرقي سورية، هذه الإنعطافة تمثلت عبر الصدمة الانتخابية التي تلقاها حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات البلدية الأخيرة، وخسر فيها بلديات كبريات المدن التركية، وكان اللاجئون السوريون إحدى الثغرات التي أتي منها حزب العدالة والتنمية الحاكم من قبل المعارضة.
في هذا السياق المسكوت عنه في التصريحات التركية الرسمية، يندفع أحد بواعث القرار التركي في شن العملية العسكرية، بالرغم من تداعياتها المنتظرة على صعيد العلاقات التركية الغربية.
اللاجئون السوريون، وهم عرب، لن يكونوا، في إعادة توطينهم في المنطقة الآمنة التي تبنى بكلفة سياسية واقتصادية تركية غير رخيصة، درع الأمن القومي فحسب، بل سيكونون، أيضاً، الورقة السياسية المسحوبة من أيدي المعارضة في الداخل، بما يسمح بإعادة حزب العدالة والتنمية ترتيب أوراقه سعياً لاستعادة الأصوات الانتخابية المفقودة، بعيداً عن أي مطب في طريق الرؤية التركية لمستقبل البلاد في مرحلة ما بعد ٢٠٢٣، وقبل ذلك هي خطوة، ضمن خطوات أخرى قد تلحقها، هدفها تحصين الحزب وحماية مستقبله السياسي، وحماية هذا المستقبل بات هدفاً محورياً أملته (الانشقاقات)، التي خرجت إلى النور، من قبل قيادات سابقة مهمة، ذكرت وسائل الإعلام التركية أنها تعتزم تشكيل حزب سياسي جديد.
وربما يكون مفارقة أن الحديث عن مستقبل الحزب، مرتبط بالحديث عن مستقبل الوحدة الجغرافية لتركيا، وهي وحدة تأتي عملية (نبع السلام) كإجراء وقائي يحول دون المساس بها، وبغض النظر عن نتيجة المفاوضات الأميركية التركية بشأن العملية، والتجاذبات بين أنقرة وعدد من العواصم الغربية، فإن هذه العملية فرضت ديناميات جديدة في المشهد السوري، إحداها: أن مشروع إقامة كيان كردي وظيفي أجّل، إن لم يكن قضي عليه تماماً، وثانيتها نفوذ أنقرة في سورية صار حقيقة على الأرض، وأن أي مستقبل لسورية لن يحسم بدون كلمة تركية مسموعة.
استماتة مليشيات الانفصال الكردية في تخويف الغرب من عودة "داعش" بسبب عملية "نبع السلام"، وبدء مسلسل التفجيرات، يثير شبهة كبيرة بوقوف هذه المليشيات العميلة وراء تفجيري القامشلي والحسكة، فهي المستفيد الأكبر، إن لم يكن الأوحد.
اتفاق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نائب الرئيس الأميركي بشأن "نبع السلام" هو تأجيل لمواجهة مقبلة بين البلدين، لأن الرؤية الأميركية للمنطقة، تفرض تحدياً وجودياً على تركيا، وتجعل توافق البلدين أشبه بالمستحيل، وكل يوم يمضي ستزداد فيه تركيا قرباً من روسيا بمقدار ما تبتعد عن أميركا، وستزداد في الوقت نفسه، اهتماماً بالعالم الإسلامي، لأنه ثبت للعقلاء من الأتراك، أن الأوروبيين لا يقبلون إلا بتركيا عارية من لباس الإسلام، ليس بالمعنى الشعائري، وإنما بمعنى الهوية والتصور والتفكير.
جهاد عدلة
إعلامي وكاتب سوري