قرص الشمس الذي راح يزاحم السحب الرمادية الكثيفة وهو يطل برأسه باستحياء على القرية الصغيرة ذات صباح كانوني بارد، ينذر بقدوم أمل ربما يكون مفقوداً، فتحت لمياء عينيها على صوت يناديها يحمل في أعماقه الخوف والرجاء، انهضي! أريد أن آخذك إلى حكيم البلدة فأنت لم تنامي طيلة البارحة، نظرت حولها تتأمل ذاك الوجه البائس، وتلكما العينين الغائرتين.
المسكينة اعتادت أن يموت جميع أبنائها عندما يصبحون بمثل سن هذه الطفلة ثلاثة أطفال قضوا نتيجة الجهل، ذهبوا جميعاً قبل أن ترى النور، حكايات شتى حيكت بشأن وفاتهم.
قيل أن البنت الصغرى توفيت بضربة شمس نتيجة لانشغال الأبوين بترميم منزلهما المتهاوي، أما الصبي الذي يكبرها بعامين فلقد قضى بالحصبة، لم يستطع الطبيب أن يفعل له شيئاً ، كل ما استطاع فعله أنه قال للأم ، أعيديه لي غداً في العاشرة، غير أنه توفي في العاشرة، ، والمؤلم ما قالته الأم بشأن وفاتهم أنهم ماتوا جميعاً في العاشرة، فحين جاءت توقظ الابنة الصغرى وهي في المراحل الأخيرة من انسلال الروح من الجسد، كانت الساعة تقترب من العاشرة، كانت أطرافها باردة ، ووجهها باهتاً، أما الشقيقة الكبرى فكثيراً ما كانت تردد الأم أنها قضت بعين حاسد.
أشاحت بوجهها في محاولة يائسة منها للعودة إلى النوم من جديد، في الوقت الذي كانت الأم ساهمة تحدق بساعة مكعبة الشكل رنانة، غير أن الصوت عاد يئن من جديد.
انهضي! - أرجوك! نريد أن نذهب قبل أن تقفل العيادة مبكراً كعادتها كل خميس، ولا أحد يعلم وقتها هل كانت الأم فعلا تخشى أن تقفل العيادة أم أنها تخشى اقتراب الساعة من العاشرة، كانت يدها المتوسلة تجذبها بقوة فرائحة الموت المنبعثة من ملابسهم الباردة مازالت تعشعش في كل ركن، تتعطر بها كل صباح ومساء، تلوك ذكرياتهم، وتهذي بحكاياتهم.
قالت العرافة للأم ذات مرة: إن العلامة الموجودة في مقدمة رأس ابنك البكر هي مؤشر على أن كل من يأتون بعده من الأبناء سيموتون، ولأجل هذا حين تضعين مولودك الجديد عليك أن تخبري، الداية كي تقوم بالطقوس اللازمة لئلا يصاب بمكروه، ورغم أنها قامت بما طلب منها تماماً، غير أن وجهها بدا شاحباً، ويدها باردة.
سارتا بخطوات سريعة جداً، دقائق معدودة، وأصبحتا داخل العيادة، شاهدتا رجلا يقف خلف طاولة مستطيلة، نظر إليهما نظرة خاطفة ثم قال ما بها؟!
لا أدري! ..... لم تنم طوال الليل، قالت الأم
ما اسمك؟!
ودون أن ينتظر الإجابة تابع يقول: ما بك هل يؤلمك شيء؟!
أشاحت بوجهها دون أن تنطق بكلمة.
كم عمرها؟!
أربع سنوات، قالت الأم
أدار وجهه ومشى بضع خطوات، بدا لهما وكأنه يحضر شيئاً ما، ثم أقبل يحمل شيئاً بيده، عرفت لمياء فيما بعد أنها الإبرة، كانت كباقي الأطفال في مثل سنها ، تخيفها كثيراً أبر الأطباء، كانت كل ما استغرقته تلك العملية بضع ثوان فقط، عاد بعدها إلى نفس المكان الذي خرج منه فيما كانت الأم منهمكة بإعادة ترتيب ملابس الطفلة، سارتا بعدها على بعد خطوات من العيادة عائدتين من حيث أتيتا، لاحظت الأم ثقل جسم الطفلة، وبطء خطواتها فأخذت تجذبها إليها بقوة، ما بك؟! ستصبحين أفضل الآن، ولكن جسمها الصغير قد بدأ يذبل شيئاً فشيئاً، بدأت ملامح الفزع تخيم على وجه الأم البائس، انحنت إلى مستوى رأسها ونظرت في عينيها ثم قالت ما بك ألا تستطيعين السير؟! كانت الكلمات تخرج من بين شفتيها مبعثرة تماماً، أخذت تتلمسها بيديها المرتجفتين، ثم حملتها وسارت بها إلى المنزل، كانت الخطوات تبدو متثاقلة جداً وكئيبة، كانتا على وشك أن تصلا إلى البيت لولا أن اعترضت طريقهما امرأة، يبدو على وجهها ملامح الفطنة، قالت للأم بنبرة تملؤها الثقة بعد ما رأت حال الطفلة، لابد وأنها تعاني من حساسية من ذاك الذي يدعى البنسلين، يجب أن تعيديها إليه فوراً، وإلا ستموت الآن.
سقطت كلمة الموت على مسامع الأم كالصاعقة، تموت يا إلهي! وينفتق الجرح، وتتصاعد أبخرة الأنات، أيعقل أن تموت، كيف؟! والداية أم محمود قد فعلت كل ما فعلت لإنقاذ حياتها، نعم إني أكاد أسمع صفير الريح، هي ذات الرائحة الصفراء، وذاك العواء، كنت أستحلفها بالله في كل مرة أن تحمل معها جميع الغربان وترحل، كانت تهاودني وتنحني إلى مستوى نافذتي وعلى حين غرة تقهقه مبتعدة بعد أن تسرق ضوء قنديلي، كان ذلك الرجل يقف بالباب، وكأنه يستعد للخروج، نظر بدهشة إلى الرأس المتدلية من فوق كتف الأم، ثم قال ماذا حصل؟! لا أدري يقولون إنه ربما لديها حساسية من البنسلين قالت الأم، ولماذا لم تخبريني قال الرجل والفزع يسيطر على كافة تفاصيل وجهه، اقترب من الطفلة وأخذ يتفحصها، مشى بخطوات سريعة إلى الداخل، ثم عاد ووضع شيئاً كالشراب في فمها، وقال بنبرة فيها الكثير من اللوم أنتم القرويون لا تحسنون التصرف، ماذا عساي أن افعل لها الآن ها أجيبيني؟، ثم قال بنزق، هيا خذيها واخرجي، وأعيديها لي غداً في العاشرة.
في صبيحة اليوم التالي وفي الحجرة الصغيرة رفعت كفيها للبارئ بالدعاء أن يحفظ الجسد البارد، المحاط بأنفاس حرى، وحفيف شجرة الصنوبر المختنقة بحشرجة حناجر الطير التي تناغمت وصوت عقارب الساعة التي تتسارع لتعلن العاشرة تماماً.
آسيا الطعامنة
كاتبة أردنية