عناقُ المعادن


                                                         

 

في ليلةٍ توأم لليال أخرى من الأرق والنعاس العنيدِ حاولتْ عقدَ مهادنةٍ مع النّوم، لكنّه بدورهِ تحالفَ مع السّهرِ في عدمِ لثمِ جفنيها.

أمسكتْ قصّة، هضمت محتوياتها بسلاسةٍ. تصفّحتْ كتباً. نظرتْ من حولها، لمحتْ جهاز الرّاديو، وضعتْ إصبعها على مفتاحِه، سرعان ما رفعتها عنه. حاولت الضّغطَ على مفتاحِ التّلفازِ، عدلت عن ذلك همستْ في سرّها:

"لا، لن أستمعَ إلى شيءٍ هذا اليومِ، كلّ ما نسمعه يقذفنا إلى خانةِ ما نسمّيها الوحوش الضّارية.

أمسكت بيديها المرتعشتينِ صحيفة مرميّة على الطّاولةِ المنغرسةِ في إحدى زوايا الغرفة، كانت ابتاعتها خلال عودتها من العملِ لكنّها لم تنظر إلى محتوياتها لعلمها المسبق بما تضمّه ثناياها من مرّ الّلفظِ والمعنى، ثمّ ألقتها إلى حيثُ لا تدري بعد أن ضمّتها إلى يديها بقوّةٍ وهي تتمتمُ:

"الحربُ، الدّمارُ، أسلحة الدّمار الشّامل، العنف؟!

ألم يبقَ للبشر حديثٌ سواه؟ أما من منقذٍ؟ أما من نبيٍّ أو رسولٍ يبني سدّاً من خلاله يمنعُ تدفّق هذا الغضب المتدفّق من نهرِ الحمقِ والشّره"؟

 أرخت جسدها المنهك بأنين البحثِ عن الخبر الأفضل والحدثِ الأنبل وهي تردّدُ قبل أن تتناولَ جهاز التّلفزيون من جديدٍ:

"لن أتابعَ الأخبار والأحداث المؤلمة هذه الّليلة. الفنّ، نعم الفنّ وحده قد يخفّفُ من الثّقل الذي حلّ بجسدي وفكري.

أدارت على قناةٍ، على اثنتين، ثلاث، أووووف، آه! "حتّى الفنّ الذي طالما أتحف أحشاءنا بوجباتٍ دسمةٍ من الإمتاع والمنفعة، وخواطرنا بنَفَسِ الحبّ والحشمةِ التي كانت ترسلها إلى الحواس من أوّلها إلى سادستها، وكان العشّ الوحيد الذي نمارس فيه ماهيتنا كيفما نشاء، نعوم على أثيرِ وَحْيه في الأفق المديدِ، الفنّ نسي الابتسامة أو تناساها. آثرَ التّحليقَ في صخبِ التّيّاراتِ المعاكسة التي تتلاعب بعجلةِ العصرِ وتديرها.

في رحلةِ بحثِها ربَتَ على جفنيها طيفُ الوسن، حاولت المقاومة لكنّها؟

سقطَ جهازُ التّلفزيون من يدها، رسم الضّياءُ على شفتيها هالة من البسماتِ كالتي تُرْسَم على شفتيّ الأمّ لحظة سماعها صرخة وليدِها إثْرَ صراعٍ مع المخاضِ وألمِ الطّلْقِ، سرحتْ مع تداعياتِ اللامرئيّ لديها.

-ما هذا؟ ماذا أرى؟ المداولات والمباحثات جارية، إنّها تبدأ، تضطرب، تشتدّ أكثر فأكثر. وصلَ الأمرُ إلى التّهديدِ والوعيدِ، إنّها تستعدّ، ماذا ستفعلُ؟ يُهيّأ إليّ أنّ معركةً مجنونة ستكونُ الفيصل بين جميعِ الأطرافِ. عليّ التّرقب لعلّني أفهمُ ما يدورُ بينها؟ المعادن وأولادها، النّفط وسلالته، الذّرة وذرّيتها. 

الصّراخ يُسمَع أعلى:

-صه يا هذا، اصغ جيّداً! قسماً...وإلا...؟

-ماذا تقول؟ البشرُ خلقونا لننهي خلقهم، لماذا لا نفعل ذلك؟ لنمحوَ نسلهم "كما تدين تُدان".

-لا، لا، هم أبدعوا في تكويننا لكي يدافع بها الضّعيفُ عن نفسِه والقويّ عن قوّته.

-بل أوجدونا لتحقيقِ ما يُسمّى في عرفهم البشريّ "التّوازن الكونيّ".

استمرّت المعركة الّلسانيّة بينهم كالتي نشهدها في مجالسنا الخاصّة والعامّة، الرّسميّة ونقيضها، ثمّ احتدمَ الصّراعُ.

-أيُعقَلُ أن يحدث ما يحدث أمامي الآن؟ معركة؟ بين مَن؟ لا أرى بشراً، لا أرى جنسَ كائن حيّ هنا! أيُعقل أن تكون عدوى البشر سَرَتْ في أوصال الجماداتِ تصول وتجول، تتمايل، تتهاوى؟

اضطرمتِ النّيرانُ، ملأ الدّخانُ الفضاءَ الرّحيبَ، غرقت المعادن في عناقٍ تضاديّ مع الجمادات الأخرى.

جمادٌ يصرخ، ينادي:

-النّجدة، الخلاص! الحديد يا سيّدنا الأوحد! أما من مفرّ؟

-أووووه، وماذا أفعل لكم؟ ألا ترون أحشائي المسايرة لجبهةِ الأتون؟

البارودُ يحاول قطع مساماتِ الشّمّ لديه، بينما الطّلقة منشغلة بلَيّ عنقها في عشّ النّعامةِ.

-الخلاص، النّجدة، الطّلقاتُ تدوّي الكون.

أصوات تختلط، تمتزج، تعلو، تتخافت من جديدٍ تعلو، تتوحّد في قوقعةٍ واحدة.

الأرضُ بعدما انفطرتْ إلى شقّين متعادلينِ تتقمّص هيئة قابض الأرواحِ وبَشَرهٍ لا مثيل له تعلنُ نهايتهم تلتطمُ الشّظايا والشّوائب المتبقيّة.

الكلّ يفزعُ من كابوسه العتيد: الكون، الأرض، المخلوقات.

-ما هذا؟ الكون شبيه للجنّة التي نحلم بها، الأرضُ غابةٌ زاهية الأصول والفروع"!

بفزعٍ تنهضُ على دويّ مترنّم:

"حربٌ جديدة تدكّ كينونتنا! الصّرخات من جديدٍ، الهلاك، الموتُ؟

تنظرُ من حولها وإذ صافرة السّاعةِ تشيرُ إلى السّاعةِ السّادسةِ والنّصفِ صباحاً، لقد حان موعد الذّهابِ إلى العمل.

قبل أن تنهضَ وبحركةٍ إراديّةٍ تضغطُ على الصّافرة في محاولةٍ منها لإيقافِ الزّمن ولو للحظاتٍ. راودتها فكرة صبيانيّة كالتي كانت تغازلها في أحلامها الطّفوليّة حين كانت ترى في منامها نقوداً تحت وسادتها أو في يديها، عندما تستيقظ من نومها لا ترى النّقودَ تحاولُ العودة إلى النّومِ ثانيةً لعلّها تعيدها.

مدّتْ جسدها على شكلٍ طوليّ، وضعت الغطاءَ على جسمها من رأسها إلى قدميها، أغمضت عينيها تظاهرت النّوم، لكنّه كان قد ولّى هارباً كعادته.

مع بسمةٍ ساخرةٍ نهضتْ من فراشها وهي تردّدُ:

"لعلّ، يا ليت، ليتها تعود، توجّهت إحدى أصابعها إلى مفتاح الرّاديو بعد أن اتكأت على الأصابع الأخرى للنّهوضِ، سمعتِ المطرب يغنّي:

"يا ريتني طير لأطير حواليك". أكملت:

"كلمة يا ريت، والله ما تقدر تعمر ركن بيت".

 

 

نارين عمر

 
 
Whatsapp