مع انحسار تنظيم الدولة الإسلامية وخسارته لمعظم الأراضي السورية، وانكفاء مقاتليه إلى آخر معقل لهم في بلدة الباغوز المتاخمة للحدود العراقية، سرعان ما سقطت بيد قوات قسد المدعومة جوّاً بطيران التحالف الذي تقوده أميركا، بعد قصفها بلا هوادة وبشتى أنواع الأسلحة، ليسدل الستار على تنظيم "داعش" الإرهابي في سورية في 23/03/2019 عندما أعلن الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) هزيمة التنظيم بنسبة 100% في سورية، كما جاء على لسان الناطقة باسم البيت الأبيض (سارة ساندرز) "لقد تم القضاء على دولة الخلافة نهائيّاً في سوريا".
كانت تركيا تنتظر تلك اللحظة، لتطرح فكرتها والتي لا تغيب عن دوائر صنع القرار في أنقرة، وهي "المنطقة الآمنة"، التي سكتت عنها منذ 2013 حينما طرحها أول مرة الرئيس التركي (أردوغان) على الرئيس (أوباما) آنذاك أثناء زيارته لواشنطن، ولكن الأخير رفض الفكرة يومها ، وها هي تعيد طرحها من جديد وبقوة على الرئيس (ترامب)، بعد القضاء على "داعش"، ولها أسبابها التي تراها محقّة لضمان أمنها القومي، ولا تقبل بوجود تنظيم تصنّفه إرهابيّاً على حدودها الجنوبية، وإن هي سكتت على وجوده لبعض الوقت بضمانة التواجد العسكري الأمريكي، فإنما يعود ذلك لوجود تنظيم "داعش" الذي قبلت "قسد" محاربته تحت قيادة التحالف، ومع زوال تنظيم الدولة الإسلامية زالت دواعي السكوت التركي على تواجد "قسد" في الشمال السوري المتاخم لحدودها، ولابد من إبعادها وإنشاء المنطقة الآمنة.
الولايات المتحدة الأميركية ومنذ عهد أوباما كانت تعلم مدى أهميّة المنطقة الآمنة بالنسبة لتركيا، فهي من جهة تضمن عدم تدفّق اللاجئين السوريين إلى أراضيها، ومن جهة أخرى تقطع الطريق على "وحدات حماية الشعب الكردي" من تنامي نفوذها في الشمال السوري، إلّا أنّ إدارة أوباما لم تستجب لطلب الرئيس (أردوغان) يومها بحجة أنّ ذلك سيؤدي إلى انهيار نظام الأسد بشكلٍ مبكّر، ولكنّها بذات الوقت تركت الباب موارباً، وأنّها تدرس إمكانية إقامة المنطقة الآمنة أو "العازلة" مع شركائها في التحالف.
قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وهو الاسم الجديد الذي تلطّت به التنظيمات الكردية PKK,PYD مع نهاية 2015، تحاشياً لاتهامها بأنّها كيان عنصري يعتمد على الأكراد فقط، بعد أن أدخلت في صفوفها عناصر عربية من أبناء المنطقة، حين أعلنت عن إنشاء منطقة "فيدرالية" في الشمال السوري شهر مارس/آذار2016 ، الأمر الذي كانت تركيا قد حذّرت منه مراراً على لسان الرئيس أردوغان، وقد جرت لقاءات مكّوكيّة بين الجانبين التركي والأميركي على المستويين العسكري والسياسي ولكنّها كانت جميعها تتّسم بالمماطلة والتسويف من الأمريكان، فجاءت عملية "درع الفرات" شهر أغسطس/آب2016 لقطع الطريق على "قسد" من التمدّد باتجاه غرب الفرات، وتحديداً في كلّ من مدينتي جرابلس والباب، اللتين كانتا خاضعتين لتنظيم الدولة "داعش"، وتمّ تحريرهما من قبل فصائل الجيش الحرّ بمساندة الجيش التركي، ثمّ أتبعتها بعملية "غصن الزيتون" لتحرير مدينة عفرين من سيطرة الميليشيات الكردية أو ما تعرف بوحدات حماية الشعب YPG/PKK في مارس/آذار2018.
انهيار اتفاق منطقة "خفض التصعيد" يعيد المنطقة الآمنة إلى الواجهة:
في مدينة سوتشي الروسية وفي أيلول/سبتمبر2018، جرى لقاء القمة بين الرئيسين التركي (أردوغان) والروسي (بوتين)، تمّ خلاله توقيع اتفاق ما يسمى "عملية أستانا" من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة السورية، ومن ضمن ما جاء في نصّ الاتفاق الحفاظ على منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، لكن الضامن الروسي لم يلتزم بذلك تحت ذريعة وجود تنظيمات إرهابية لازالت تسيطر على مناطق واسعة من إدلب وريف حماه الشمالي، وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" ـ جبهة النصرة سابقاً ـ التي تنتمي إلى تنظيم القاعدة، وخاصة بعد طرد "أحرار الشام" من إدلب ما فاقم الأمر، وأدّى إلى شنّ حملة شرسة في مايو/أيار 2019 من قبل الطيران الروسي والنظام على مناطق واسعة من إدلب شملت خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب وغيرها من البلدات الواقعة ضمن منطقة خفض التصعيد الرابعة، أدّت إلى سقوط خان شيخون بعد أربعة شهور من القصف اليومي بشتى أنواع القنابل المحرّمة دولياً (الارتجاجية ـ الفوسفورية الفراغية)، ونجم عنها موجة نزوح جديدة لعشرات الآلاف من العائلات باتجاه الحدود التركية، ما دعا الرئيس (أردوغان) إلى وضع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أمام خيارين، إمّا الشروع بتنفيذ المنطقة الآمنة أو أنّه سيفتح الحدود باتجاه أوروبا، وليتحمل الغرب موجة جديدة من اللاجئين.
من سقوط الباغوز مارس/آذار2019 بأيدي قسد، إلى سقوط خان شيخون أغسطس/آب 2019 بيد النظام، استطاع الرئيس التركي أن ينتزع موافقة البيت الأبيض على المنطقة الآمنة بتاريخ 7/ 8/ 2019، ليأتي إطلاق عملية "نبع السلام" في 9/10/2019تتويجاً لذلك الاتفاق والترجمة العملية له على طول الحدود شرقي الفرات وبعمق 32 كم داخل الأراضي السورية. إنّ انهيار اتفاق سوتشي والتصعيد الروسي في منطقة خفض التصعيد، قابله (أردوغان) بعملية "نبع السلام" التي حققت في أسبوعها الأول تحرير مدينتي (رأس العين و تل أبيض)، ولازالت العملية تأتي أكلها رغم توقف العمليات العسكرية مؤقتاً، إذا ما التزمت قسد بالانسحاب طوعاً، وبضمانة أميركية لا تبدو أنّها تختلف كثيراً عن ضمانات الروسي والإيراني في جميع مراحل الثورة السورية، وهذا ما أكدته زيارة الرئيس (أردوغان) إلى واشنطن ولقاء الرئيس الأمريكي (ترامب) في 13/ 11/2019، وعلى أساسها تمكن الرئيس أردوغان من انتزاع كل ما يريده من عملية "نبع السلام"، التي ستكون الحدود الفعلية للمنطقة الآمنة المزمع إقامتها، والتي يأمل الرئيس (أردوغان) أن توفّر ملاذاً آمناً لأكثر من مليون لاجئ من أهالي المنطقة ممّن يرغبون العودة إلى بلدهم بعيدًا عن حكم الإرهاب (الأسدي) أو (القسدي) لا فرق.
ياسر الحسيني
كاتب واعلامي سوري