ندعي دائمًا أننا بخير ولا نواجه الحقيقة، تائهون في أزقة من المتاهة والحيرة، متعثرون في كل الاتجاهات لا نملك الخيارات التي تنقذنا، متأزمون وكأننا في دوار البحر يأخذنا بعيدًا حيث الغرق ونحن نضحك كالبلهاء.
إلى متى نهرب من واقعية الهاوية التي لا تنتهي، نفتش عن سقطات الآخرين وعطب الآخرين ونتناسى أننا في سقوط دائم ومتسارع على جانبي الحقيقة فلا نستطيع أن نراها، ولا أن نتمسك بحوافها وكأننا تجانسنا مع التسليم الكامل، مع هذه الوجوه التي تحمل ذات التعابير بعيون شاخصة وقلوب مرتجفة أمام هذه العاصفة التي لا تتوقف ولا تهدأ.
ثم ندعي أننا بخير، يا لحماقاتنا ويا لغرابتنا وكأننا ننتشي من السموم، نخشى أن نصحو من السكر، نخشى البحث عن الحقيقة، نخشى معرفة عجزنا وأمراضنا فنهرب ونهرب حتى من النجاة، فلا نتوقف عن الاختباء وراء ظلنا وادعاء النصر الذي لن يأتي تحت خمسين راية وسبعين عقيدة وألف شيطان، ولن تظهر لنا المرآة إلا قبحنا، وهذا الخذلان والتخلي.
لم لا نعترف بأننا فقدنا بوصلة الوجود والهدف، محكومون بقيد الحياة وقيد الشعور المضطرب، تلتفنا اللعنة، وبأن الله لن يستجيب للقلوب الخبيثة والصدور الحاقدة والوجوه المتلونة، ولن نشعر بالرضى والكراهية تنصب أسوارها وحرابها.
إلى متى حياد النفوس البليدة واللامبالاة المقرفة، كم سيستمر الهرب من الخوف، متى المواجهة برجولة بديلًا للهرب والسقوط بذل تحت أقدام الطغاة وأحذية الراقصات والتمسّح بأراذل الغلمان ومطايا الطغيان، ومن سيشفع للهاربين. تحت أي غطاء سيقدم المعذرون أعذارهم؟ يا عبيد الشيطان والمال، أيها الصامدون تحت ألف حذاء، أيها الباحثون عن لقيمات التشبث بالحياة، أيها المغيبون تحت العَلَم الملطخ، أيها الراكعون للزعامات. أيّ حياةٍ ترجون برجولة مغتصبة، ورقاب متدلية ترجو عفو السيد عن حياتكم أنتم، وعطاء المحسن من أرزاقكم.
أيّ مستقبل ينتظر أبناءكم وأنتم تلتحفون العار، وهم أمامكم يساقون بأمر الطغيان يقتلون ويُقتلون تحت شعارات الوطن المستباح، ونداءات المنابر المشؤومة والأقلام المأجورة والإعلام المرتزق.
هنا في هذه المدينة، العظيمة بصمودها أمام الصفعات الكثيرة، وشموخها بمواجهة الاحتلال والتغريب، في الحاضرة التي لم تنحن يومًا لمستبد، وما أغلقت بابها في وجه غريب، لم يجع فيها فقير، ولم يسأل الناسَ فيها مسكين. هنا في هذه المدينة عمّ وباء أصاب ماءها وترابها وهواءها وبيوتها.
هنا خيّم الليل، هنا في زمن الخوف ودولة الخوف ثمّة يأس جاثم يقيد الأرواح، يتبلد الإحساس بالمسؤولية، ينتصر العجز أمام صرخات من لا حيلة لهم، يتهاوى الحلم أمام الجثث المشوهة والمحترقة، هنا كل شيء منتهك.
كم أصبحت هذه المدينة موحشة، لا يطاق ليلها، باهت صباحها، وجميع الوجوه قاسية، ملامحها غريبة، لغاتها غريبة، الوباء الأصفر غزا شوارعها، حيطانها مآذن الشام، أجراس كنائسها، ترانيم العشاق، صوت فيروز، فنجان القهوة، ضاعت سهراتها الآسرة وحكاياتها الجميلة إلى أجسام مثقلة بالأوجاع وعيون باهتة مرتقبة، إلى همس مرتجف منكسر أمام هذا القهر وذلك اللطم؟
يا ويحنا، ونحن نشهد قتلنا وبيعنا وسفاحنا، يا لشقاوتنا ونحن نستجدي العبيد والمخمورين، يا لخيباتنا إن قعدنا في أحضان العجز، ولم ننتفض في مواجهة الظلم وإعصار الطغيان واستبداد الجهل.
لكم أخشى أن يتلاشى الغضب قبل إنهاء هذا الكابوس، أن أصحو على كذبة ستشرق الشمس ويطل فجر جديد، فلا رغبة لي في زحام جديد وصراخ لا يتوقف. دعوني في عتمتي أسقط بلا مزاحمة.
محمد الحموي كيلاني
كاتب وإعلامي سوري