المثقّف الأعور والإرهاب الأعمى


 

 

 

كان همام بن مرّة صديق الزير، ونديمه، فيتساقيان في وادي ابن عامر، ويعتزلان القبيلة الأيام والليالي، ولكنّ الحرب الأهلية فرقت بينهما، وجعلتهما ضدّين في معركة لا تحتمل نجاة اثنين من طاحونتها، يقف همام والزير عدوّين كلّ منهما يريد قتل الآخر، وثمّة جرح لا يستفيق إلّا حين يصرع أحدهما الآخر، ويظلّ وحيدًا، وقد فقد جزءًا من ذاته.

سقط همام بن مرّة، وسقطت روح الزير، وامتد الشوط بين بكر وربيعة، سنين، ثم استيقظت على يد الأحفاد، فقبض البحتري على مكوّناتها: (الحميّة الجاهلية والعزّة الكليبيّة) ولكن المرحمة سالت أيضًا مع الدم، ولكنّ هذا لم يكفي فقد أمست الديار خرائب.

في الحروب الأهليّة يسقط المثقّف البصير، وتنمو حاجة العنف المتوقّد إلى مثقفٍ يرى الحقيقة بعين الطائفة أو الحزب أو الإثنيّة، ولا يمكن الجزم أن المصلحة هي الدافع الأكبر، بقدر ما هو حرص من المثقف (فارس الحرب الجديد) في الدفاع عن وجود الجماعة.

يلتقي المثقّف الأعور مع الصيّاد في النظر إلى الطريدة بعين واحدة حين التسديد، ولكنّ الصياد يفتح عينه الثانية بعد إطلاق السهم، ويركض جهة الطريدة القتيلة، وقد يترك الصيد، أو يرأف بحال فراخ الطائر المغدور، فيصلح لها العشّ، ولكنّ كريمة المثقف المطموسة تظلّ حبيسة محجرها، في انتظار مواسم صيد لا تنقطع.

لا يستطيع المثقف الأعور أن يفتح عينه العوراء، ولو خطأً، فهو يعرف أنّه في رأس كتلة النار المنصهرة التي لا يمكن أن تقف، وأن أي التفاتة نحو الجزء الآخر من الحقيقة تعني هلاكه، وأن كرة اللهب تمشي "واثقة الخطا" ولو حاولت الأمطار والثلوج، فثمة فائض في جوف البركان يتقدّم، وهو يدرك أنّه جزء من هذا السيل، ولا منجاة له إلّا إغماض عينه عن جزء من الحقيقة.

في الحروب الأهلية تمسي الأخطاء المتعمّدة أخطاء مقدّسة، تجد مسوّغها في أعراف القبيلة الجديدة، ومن أجل حجز مكان "الفرقة الناجية" يجوز للمثقف الأعور أن يمارس الخطيئة، والأخطاء، فيدلّس، ويظهر، ويستثمر البلاغة، ويلحن في الحجّة، وحين يتقابل المثقفون العور، على ساحة الحِجاج، فإنّما يتواطؤون مع الإرهاب الأعمى.

 يمارس المثقّف الأعور التنمّر الثقافي، بوصفه أداة صيد، أنفق عليها السنين الطوال، في تثقيفها و"بري كعوبها" وفي السجال البليد تسقط الحجج تباعًا، ويزهد الصيّاد في إصابة "كبد الحقيقة" فيدمّر الحقيقة، ويصرف همّه إلى "ناطور العنب" وليس إلى عناقيد الحقيقة.

يمكن القول إن الشرق الثاكل ما زال يستمرئ مباريات البلاغة السوداء، البلاغة المعجونة بأداء عقيم لا يغادر لغة لا تغادر معجم الشتائم، يملأ ساحاتها مثقفون عوران، تبادلوا اللكمات تحت الحزام.

لا أشتم أحدًا، ولكنّي أضع أصبعًا على جرح، ,اقول لكم "مات المثقف البصير".

_______

احْنَا جُگُم وانتو عُور* وخلّي ها الطابق مستور

 

 

 

عيسى الشيخ حسن

شاعر وكاتب سوري

 
Whatsapp