يحاول الموت أن يذكّرنا بقرب مجيئه فنذكره ثم نتناساه.
الساحات تمتلئ بجثث الأبرياء في سوريا على أيدي ميليشيات الأسد وحلفائه من الايرانيين والروس وحزب اللات، وقوات الأنظمة في العراق ولبنان والسودان والجزائر وإيران واليمن لا تتورع عن قمع المتظاهرين بكل الوسائل، فيتساقط الشهداء.
كلما اصطدمنا بحالة موت إنسان عزيز أو قريب منّا نقف مدهوشين وكأنّها المرّة الأولى التي يحدث فيها هذا الشيء الغامض.
ونتصرف دائماً وكأننا قادرون على إيقاف واقعة الموت وقد نستعجله مع زهير بن أبي سلمى قائلين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعــــش ثمانين حـولاً - لا أبالك - يســأمِ
ولكن هيهات لمؤجّلي استعدادهم له، فإذا تريثوا هم ليس للموت صلاحية في تأجيل مجيئه ولا قدرة له إلاّ الامتثال لأمر ربه { إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } إنما هو مكلّف بعمله كما شاء الله لاكما يظن / زهير/ بأنه يضرب يمنة ويسرة فيصيب من يصيب وينجو من ينجو:
رأيـت المنايا خبـط عشواء من تصب تمتـه ومن تخطئ يعمّر فيهــرمِ
إنما يمر الموت في وقت محدد لكل نفس فيقطفها بحيث لا يوفر أحداً على مدى الدهر ليجسّد المساواة الكاملة بين البشر { كل نفس ذائقة الموت } بغير استثناء ولا وساطات، وحتى الأنبياء ذاقوا هذه الواقعة التي تكاد تكون الفعل الديمقراطي الوحيد الكامل الذي لا يقبل الرشاوي ولا تنفع معه الحيلة ولا يملك مكيالين ليفرّق بين غنيّ وفقير أو حاكم ومحكوم.
لا يمكن أن نستهتر بالموت أو أن نتناساه، وإنما يحسن بنا أن نستعدّ له بوصفه جسراً للانتقال من عالم إلى عالم كما ينتقل الجنين من رحم الأم ليغدو طفلاً في عالم أرحب. حين ينتقل الطفل إلى عالم الحياة يبدأ بالبكاء على محيطه الذي ألِفَه غير راغب في مفارقته، لكنّه يتلقى الصدمة الأولى بالانفصال عن حبل السرّة، فإذا جاء إلى الدنيا ألفها وأحبّها ورغب عن مفارقتها حتى أنه يتهيّب من فقدانها والانتقال إلى عالم آخر تصفه الأديان بأنه الأجمل { الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور} لكنّه يبقى عالماً رهيباً وتنبع رهبته من كونه عالماً غامضاً يجب أن نحبّه رغم غموضه بدلاً من محاولة الهرب منه من غير جدوى، كما لاحظ الإمام الشافعي:
ومــن نزلــت بساحتـه المنايــا فــلا أرض تقيــه ولا سمــاءُ
لقد جرّب / جلجامش / أن يهرب من الموت ويبحث عن سرّ الخلود بعد أن فُجع بفقدان صديقه /أنكيدو/ لكنه فشل؛ وفشل كثيرون قبله وبعده في التملّص من شرب تلك الكأس الواجبة على الكائنات جميعها والتي هي رحمة لهم { محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة }.
والأحرى بنا أن نرحّب بتناول تلك الكأس فرحين لأن الحياة التي لا تنتهي تصيب المرء بالضجر، تماماً كما الكتاب الضخم الذي يستغرق زمناً خرافياً لقراءته، وكالعمل الطويل المرهق الذي ابتلي به /سيزيف/ في رحلة عذاب أبدية. ألا تصبح الحياة الطويلة مصدر إزعاج مستمرّ لنا، تحفّ بها الأمراض من كل جانب ونعتاد خلالها العالم حتى الضجر؟!
بل ألا يتمنى حينذاك كل من حولنا بأن تنتهي حياتنا لنتخلّص ويتخلّصوا معنا من حياة معذبة لا جدوى منها؟
وإذا كنا جميعاً نقرّ بحتمية الموت وبكونه رحمة للإنسان فإننا في جهة أخرى نستبعد ضمناً أن ذلك سيحدث لنا ذات يوم.
وبما أن الموت واقعة حتمية ألا يكون الأجدى لنا أن نعيش حياتنا بأسلوب نتعلّم فيه كيف لا يكون الموت مخيفاً من خلال اصطحابنا وثائق نظامية وعدّة كافية للرحلة الأخيرة. عدّة تجعلنا نردّد بثقة قوله تعالى: { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية } قبل أن يفوت الأوان؟!
د. محمد جمال طحان