أوروبا وإعادة إنتاج السوريين


 

 

يعيش ما يزيد عن مليون سوري حاليًا في دول أوروبية متفرقة، وقدمت لهم الأخيرة بعد وصولهم بطرق شرعية وغير شرعية كثيرًا من التسهيلات والمعونات المادية والمعنوية في سبيل تحقيق الاندماج في المجتمعات والتحول إلى أشخاص فاعلين.

مضت سنوات منذ وصول الدفعات الأولى من اللاجئين السوريين إلى دول أوروبية مختلفة، وهي من المفترض أن تكون كفيلة بإتقانهم لغات البلاد التي يعيشون فيها وقواعدها، ومن ثمّ الدخول في سوق العمل، غيرَ أن كثيراً من السوريين ما زالوا في الدرك الأسفل من سلم تعلم اللغة والاندماج. لا توجد إحصاءات رسمية تشير إلى نسب في هذا المجال، لكن المشاهدات توحي بأن أرقاماً ليست بهينة من السوريين ما تزال تعتمد بشكل كلي على المساعدات الاجتماعية، كما أن موضوعة الاندماج التي طمح لها الأوروبيون منذ البداية وخصصوا لأجلها كثيراً من البرامج تسير بخطى بطيئة ومتعثرة لدى مجموعات من السوريين الذين ازداد تعلقهم بقيمهم الاجتماعية وعاداتهم بعد انفتاحهم على النمط الغربي (الصدمة الثقافية)، وهي حالة طبيعية يمكن أن تحلّ نفسها بنفسها عبر تعاقب الأجيال فالجيل الثاني في أوروبا ممّن ولدوا ودرسوا وترعرعوا في البلدان الأوروبية لن يواجه المشكلات التي واجهها الجيل الأول. 

المشكلة تكمن في الجيل الحالي وهي التي تستدعي حلولاً سريعة، إذ لا بدّ للسوريين من الاندماج في مجتمعاتهم الأوروبية المضيفة ولو جزئياً بالحدود التي تسمح لهم بدخول سوق العمل والانتقال إلى الفعالية والانتاج، لكن قسماً كبيراً من السوريين لا يدركون أهمية هذا الانتقال، ويعتقدون أنهم يستطيعون العيش طيلة حياتهم على المساعدات الاجتماعية، ويماطلون في تعلّم اللغة لتمديد فترة الدعم، وبعضهم يشعر أنه بتجاوزه رحلة البحر الخطيرة فإنه يستحق أن يعيش بقية حياته بأمان وسلام واكتفاء دون أن يتكبّد مشاق أو متاعب العمل.

نعرف قصصاً كثيرة عن سوريين في أوروبا يرتادون مدارس ومعاهد تعلم اللغات منذ ثلاث وأربع وأحياناً خمس سنوات وما زالوا في المراحل الأولى من تعلم اللغة، كما ويرفضون الالتزام بأي فرص عمل من شأنها أن تخفّف من عبء نفقاتهم، ما يدفع الأوروبيين إلى تكوين تصوّرات بأن السوريين ليسوا كفؤين للعمل، ومن ثمّ التعاطي معهم بوتيرة واحدة، ولهم من الخبرات والتجارب ما يمكّنهم إعادة دمج العجينة السورية وتكوينها بطرق جديدة، وعبر ذلك استطاعوا إدخال العديد من السوريين ذوي الاختصاصات في أعمال مهنية ونجحوا في تدريبهم وإعدادهم لهذه الأعمال. استغرق الأمر وقتاً وجهداً لكن النتيجة كانت إيجابية. 

يمكن تشبيه ما يحدث بدورة إعادة الإنتاج التي يدخلها اللاجئون من المرحلة صفر ثم ما يلبثوا أن يخرجوا منها بهيئة وحلّة جديدة وكلّ ذلك حالة صحية يمكن فهم دوافعها ومبرراتها وقبولها، كون بيئة العمل التي تحتضن السوريين نظيفة، وتضمن حقوقهم وتحترمهم، وهي بلا شك أفضل من بقائهم دون عمل، كأن يتحول خريجي المعاهد المتوسطة في الدول الأوروبية إلى موظفين في مطاعم الوجبات السريعة، أو المعلمين إلى عمال في مصانع وورشات مهنية، بمداخيل معقولة وشروط مقبولة، وكل ذلك يحدث وفقَ متطلبات وحاجة السوق، ومهما كان اللاجئ منيعاً ومصراً على نمط معين، أو العمل باختصاص محدّد هو ليس جديراً به، فإنه يرضخ أخيراً لما يراه المشرّع الأوروبي، الذي يتخذ منذ البداية طرقاً حضارية، فيها من التحفيز والجاذبية ما يقنع اللاجئ السوري بالموافقة.

لكن من غير المفهوم أن تتعامل مؤسسات صنع القرار الأوروبية بمنطق الاستبعاد والاستخفاف مع السوريين من ذوي الشهادات العليا والمكانات العلمية المرموقة ويمثلون ما نسبته 13 بالمئة من اللاجئين السوريين في أوروبا وفقَ دراسة لمركز حرمون للدراسات المعاصرة، فهؤلاء من غير الممكن أن يتم التعاطي معهم بنفس الآلية والطريقة، وليس من الكياسة بمكان تعريضهم لظروف واختبارات مهنية ونفسية شاقة.

تفاجأتُ كثيراً عندما سمعتُ مؤخراً من صديقة مقيمة في فرنسا منذ أعوام، بأن معظم السوريين من زملائها المهندسين لا يجدون فرصَ عمل في تخصّصهم على الرغم من تمكّنهم من اللغة الفرنسية، وعندما تتصل بهم الجمعيات المسؤولة عنهم والمعنية بإيجاد فرص عمل لهم فإنها تخبرهم بوجود شواغر في مجال النظافة، الطبخ، ورعاية المسنين أو الأطفال، وهي مهن لا يمكن لهم العمل بها.

كمواطن درجة ثانية في القارة الأوروبية لا بأس بقليلٍ من التنازلات، فالأوروبيين يعترفون بأن أحد أبرز أسبابهم في استقبال اللاجئين هو حاجتهم لأيدي عاملة، نظراً لما تعانيه القارة من نقص في قطاعات الرعاية الطبية والنظافة، وتخصصات مهنية أخرى لن يكون بمقدور الأوروبيين تغطيتها في المستقبل القريب، ومن الممكن للسوريين الذين تم تأهيلهم الاستفادة من هذه الفرص، بعيداً عن التقليل من الكفايات أو فرض الآلية عينها عليهم. خلصت دراسة سويدية، متعلّقة بمستويات تعليم الوافدين إلى السويد خلال عام 2014، إلى أنّ اللاجئين السوريين هم الأكثر تعليماً من بين اللاجئين الحاصلين على إقامة دائمة في هذا البلد، وأنّ 37 في المئة منهم حاصل على شهادات جامعية. 

الأكاديميين السوريين القاطنين في أوروبا يشكون من صعوبات وبيروقراطية إكمال الدراسات العليا، أو معادلة شهاداتهم، وبالتالي استحالة مجاراتهم السكان الأصليين في فرص العمل التي تناسبهم، وهو تحدٍّ ينبغي على الهيئات المدنية الفاعلة هناك التصدي له بالتعاون والتنسيق مع الجهات الأوروبية التي تتحلى بالموضوعية.

 

 

   آلاء عوض

   كاتبة وصحافية سورية

 
Whatsapp