ثمّة ما يجيز لنا مقارنة (جزئية) بين قصيدتين، إحداهما للشاعر محمد مهدي الجواهري 1899 – 1997، والأخرى للشاعر عمر أبو ريشة 1910 – 1990، ذلك أن كلا الشاعرين يُعدّ من أبرز روّاد القصيدة العربية الكلاسيكية في القرن العشرين، كما أنهما معاً، قد عاصرا، وتفاعلا مع مرحلة تاريخية صاخبة بالأحداث السياسية، والتحوّلات الاجتماعية، فضلاً عن انبثاقهما -شعرياً – من مرجعية ثقافية تراثية واحدة.
ولمّا كانت المقارنة المستفيضة الشاملة بين القصيدتين مستحيلة التحقق في حيّز هذه المقالة الوجيزة، فحسبنا الوقوف أمام جانب واحد، لا يطال المواد الشعرية التي تمنحه خواصّه النوعية، كالتشكيل اللغوي أو البلاغي أو الموسيقي، بل يقف عند تخوم الموقف الشعري، وأعني به الرؤية التي يتأسس عليها التفكير الجمالي للشاعر، لقناعة لديّ مفادها: أن الشعر الحق، هو ضربٌ من الفلسفة، طالما أن الشاعر والفيلسوف كليهما لا يكتفي بملامسة المظاهر العامة لما هو مرئي أو محسوس، بل يحاول النفاذ إلى ما وراء الأشياء أو الأفكار، واستبطان دواخلها، ومن ثم صياغة فهمها من جديد، وهذا ما يُدعى بعملية الخلْق الجمالي أو الفني.
من قصيدة بعنوان (حديث الروح) يقول الجواهري:
يا لخدّيك ناعمان يضجّــــــــــــان بالسنا
ولجفنيك ناعسان مشى فيــــــــهما الونى
بأبي أنت، لا أبـــــــــــي لك كفؤٌ ولا أنا
أرقب الصبح موهناً ودجى الليل موهنا
أنت يا مرّة الطبــــــاع ويا حلوة الجنى
كم تودّين لو خنقتِ صدى الحـــبّ بيننا
للذي صاغ واعتنى، وبنى منك ما بنى
وتبنّاك مقطعاً مستــــــــــــعاداً فأحسنا
لو تتوّجتُ بالدنى، لم يكن عنك لي غنى
تجسّد الأبيات السابقة إحدى لحظات حضور المرأة (الحبيبة) لدى الشاعر، من خلال تشكيل فني يُفصح عن مستويين لهذا الحضور، الأول: مستوى حسّي (خدّان ناعما الملمس شديدا الاحمرار، وجفنان ناعسان قد هيمن الذبول عليهما). المستوى الثاني: عاطفي، يعبّر الشاعر من خلاله عن مبلغ حبه لمحبوبته، مؤكداً في الوقت ذاته قسوة الحبيبة وتجاهلها لبثه وهيامه.
ويقول أبو ريشة (من قصيدة بعنوان: أشهى من أن يدوم):
وحدي، لو أنكِ أقصى من ظل كأسي ظلّا
أبلي عليك الليالي بهاجس ليس يبلى
ولم أزل في ذهولي أبـــغي لسرّك حــــلّا
أردْتِ أنت انطلاقي إلى الخبــــاء المعلّى
إلى ملاعب دنيا ما زارها الوهم قبلا
ولم أكــن لك كفؤاً ولا لحـــــبكِ أهلا
وغبتِ، لم تتركي لي من القليــــــــل الأقلّا
لم أدرِ كيف تصدّى لي النعيــــــــــم وولّى
لعلّه كــــــان أشهى من أن يدوم وأحلى
تتشاطر القصيدتان السابقتان قضية مشتركة، وهي تجليات حضور المرأة لدى كلٍّ من الشاعرين، ثم تتباعدان بعد ذلك، ليجد القارئ أنه حيال فلسفتين شعريتين مختلفتين، تصدران عن موقفين ليسا متباينين فنياً فحسب، بل في المنحى الفكري والفلسفي لكلا الشاعرين.
ولئن استهلّ الجواهري قصيدته بإبداء حفاوته ودهشته من خدّي حبيبته الناعمتين المشرئبتين بالاحمرار، وكذلك من الجفنين النعساوين الفاترين، فإن هذه الدهشة لا تنمّ عن تجربة شعورية متفرّدة، بقدر ما هي مُستقاة من تجارب عديدة حفل بها التراث الشعري، ذلك أن نعومة البشرة وبياضها، واحمرار الخدين، وذبول الجفنين، هي من السمات الجمالية النمطية للمرأة على امتداد العصور، يقول قيس بن الملوّح:
منعّمةٌ لو باشر الذرّ جلدها لأثّر منها في مدارجه الذرُّ
ويقول أيضاً في الجفنين النعساوين:
ومن أيْنَ لِلشَّمْسِ المُنِيرة ِ بالضُّحى بمكحولة العينين في طرفها فتْرُ
فصورة المرأة لدى الجواهري تنبثق من معين ثقافي تراثي، برع الجواهري في الامتثال له، وإعادة تكراره، ولكن لا أعتقد أنه برع في إعادة إنتاجه برؤية جديدة، أي رؤية الشاعر نفسه وفلسفته حيال مفاتن حبيبته. ولو انتقلنا إلى الفكرة الثانية في قصيدة الجواهري، لوجدنا أن الشكوى من صدّ الحبيب واتهامه بتجاهل المحب، لهو مفهوم سائد إلى درجة (النمطية):
(كم تودّين لو خنقتِ صدى الحب بيننا)
وأعتقد أن هذا الموقف النمطي يجسّد تقزيماً لمشاعر المرأة، بل يضمر اتهاماً بمحدودية حيويتها الإنسانية، وذلك انطلاقاً من أن مفهوم الحب، أو أي علاقة إنسانية بين الرجل والمرأة، هي علاقة ذات صفة تفاعلية وليست أحادية الجانب.
وفي الوقت الذي نرى فيه الجواهري يكتفي باستحضار المرأة (النموذج)، على المستوى الحسي والشعوري معاً، فإن عمر أبو ريشة يجد في فضاء الحبّ ملاذاً للتأمل والتفكير، بل لا يتورع من التعاطي في هذا الفضاء، مع أشدّ الأفكار تعقيداً وفلسفةً.
ولئن كانت المرأة تتجسّد بملامحها الحسية في لحظة استهلال القصيدة لدى الجواهري (الخدود الناعمة والأجفان الناعسة)، فهي ليست عند أبي ريشة سوى هاجس، والهاجس في اللغة، هو الفكرة التي يشوبها القلق، هذا الهاجس – وفقاً لأبي ريشة – هو حاضر على الدوام، بل هو ملازم للحالة العاطفية عند الشاعر (هاجس ليس يبلى)، وهو ما دعا الشاعر إلى الدهشة، ثم إلى التفكير الدائم بغية البحث عن سرّ هذا الهاجس الذي – ربما – كان أحد البواعث الجمالية لدى المرأة.
لم تكن المكابدة الوجدانية لدى أبي ريشة مبعث شكوى وشعور بالظلم، كما لم تكن مبعث سخط على المرأة، واتهاماً لها بالتنكر لحبه ومشاعره كما لدى الجواهري، بل غالباً ما كانت حافزاً للتفكير الدؤوب نحو ما هو غامض ومحجوب، فكرياً وفلسفياً، ولعل هذا ما عناه بقوله:
أردْتِ أنت انطلاقي إلى الخباء المعلّى
إلى ملاعب دنيا ما زارها الوهم قبلا
ولعل عبارة (الخباء المعلّى) تحيل إلى عالم الأفكار المستورة التي ما برح الشاعر يحاول مقاربة مكنوناتها، بل لعلّي أميل إلى الظن أن نزعة الولوج إلى استبطان المشاعر، ومن ثم إعادة فلسفتها من جديد، هي إحدى المؤثرات الصوفية التي لم يكن أبو ريشة بعيداً عنها.
إن سمة الصدود عند المرأة، واتهامها بالتنكر لمعاناة الحبيب، وتجاهل مشاعره، لهي سمة كرّسها موقف تراثي عام عن المرأة، وقد أعاد الجواهري تكرار هذا الموقف، متماهياً مع وعيه الفكري الذي هو نتاج تكوينه الثقافي، بينما الحال هو غير ذلك لدى أبي ريشة، الذي تشغله الهواجس الفكرية على الدوام، بل تدفعه إلى التفكير في منحى آخر، إذ يرفض أن تكون المرأة هي الطرف الجاني، ولماذا لا يكون الرجل؟
ولم أكنْ لك كفؤاً ولا لحبك أهلا
ولعلّي أرى أن أدقّ توصيف لموقف الجواهري من المرأة، هو ما أورده في قصيدته دون أي تأويل:
(للذي صاغ واعتنى، وبنى منك ما بنى
وتبنّــــــــــــاكِ مقطعاً مستعاداً فأحسنا)
بالفعل، لقد برع الجواهري في صياغة التشكيل اللغوي حيال الحديث عن الحب، وبنى هيكلاً شعرياً شامخاً كعادته، إلّا أن رؤيته الشعرية لم تستطع النفاذ إلى عمق علاقته العاطفية، وهذا ما جعل المرأة لديه ليست أكثر من (مقطعاً مُستعاداً). في حين أن لحظة الحرمان التي منيَ بها أبو ريشة كانت بداية رحلة في عالم الفكر والتأمل، حتى وجدها (أشهى من أن تدوم وأحلى).
حسن النيفي