فتح الشيطانُ عينيه، تَمَطّى ثم قال لنفسه: هيا بنا نلهو.
فَتَحَ خِزانةَ أقنعتهِ ووضع في حقيبته أنواعاً شتى منها، وقبل أن يَخرج نَظرَ إلى المرآة وأطلقَ ضحكةً مجلجلة، "سيكون يومي حافلا " ردد في نفسه قبل أن ينطلق.
جذبته غيومٌ سوداء فاخترقها نازلاً إلى الأرض، واستوقفه منظر قنّاص يعتلي
أحد الأبنية ويصوّب نحو مدنيين غاضبين يرفعون قبضاتهم هاتفين، فاقترب من القنّاص وَوَسْوَسَ في صدره أن اقتُلْ أحدهم ليكون عِبرة للآخرين، ضحكَ القناص وقال له: ألا ترى أعقاب الطلقات حولي؟ وهل تظنني هنا أصطاد العصافير!!؟ لقد أرديت منهم ثلاثة عشر حتى الآن.
فبُهِت الشيطان وغادر وهو يحك رأسه مستغرباً، واسترعى انتباهه بناء أمنيّ يكثر حوله الحراس فانسرب بخفة إلى غرفة الضابط الكبير فوَسْوَسَ في صدرِهِ خطةً شيطانية، قال له: أَرسِل عناصركَ بملابس مدنية وليندسّوا بين المتظاهرين وليطلِقوا النار كي تُلصَقَ بالمتظاهرين تُهمة الإجرام.
ضحك الضابط حتى أُغشي عليه وقال له وهو يغالب ضِحكته كي يتمكنَ من الكلام: " تعال أيها الساذجْ لأُخبركَ ما فعلتَه أنا ": لقد جَلَبتُ من السجن العشرات ممن سجنّاهم بعد التظاهرات وأرسلتُهم مُكبَّلين إلى أحد مراكزنا وفجرنا بِهِمْ المكان، وقُلنا: إن القتلى هم عناصرنا وتركنا الكاميرات تصور الحدث، وهكذا فقد سجنّاهم وعذبناهم وفجّرناهم وخرجنا من القصة على أننا الضحايا فما رأيك؟
صُعق الشيطان من هذه الحبكة الجهنمية، فطأطأ رأسه وغادَرَ خَجِلاً ، وطار فوق منطقة صحراوية، استرعى انتباهه فيها وُجودُ مجموعاتٍ من المتدينين بذقونهم المُرسَلة وملابسهم الأفغانية، ويلهجون بذكر الله، ويرفعون أعلاماً عليها اسم جلالته فقال الشيطان في نفسه: لقد وجدت ضالّتي وسأجد الطريقة لأحرفهم عن إيمانهم واستردّ شيئاً من هيبتي، فاقترب من بعضهم وراح يوسوس في صدورهم بأن الرأفة والرحمة من شيَم الضعفاء والدراويش وأن الحزم مطلوب لبثّ الخِشْيَةَ في القلوب ، وإذ بِهِمْ يتبادلون فيما بينهم نظرات ساخرة ثم جلسوا يقهقهون حتى انفرطت المسابح التي في أيديهم وقالوا له: تعال معنا لنريك من نحن.
فأخذوه الى حيث ينفِّذون طقساً غريباً، إذ جعلوا العشرات من مساجينهم مبطوحين على بطونهم بملابسهم البرتقالية ويجثم فوق كلٍ منهم أحد المؤمنين الملتحين من ذوي العضلات المفتولة ليحزّوا أعناق السجناء المشدودة إلى الأعلى في حركة واحدة مع التكبير والحوقلة فوق سواقٍ من الدماء، فأصاب الشيطان رعب شديد، وفرّ طائراً وهو يلملم خِزيه وقلة حيلته التي أصابته أمام تلك الكائنات.
غير أن سُحُب الدخان المنبعثة من مدينة مدمّرة فتحت شهيته وجددت قواه فانطلَقَ باتجاهها، وهناك وَجَدَ على أطرافها جنوداً ليسوا بجنود، تسودهم الفوضى، ويلبس كثير منهم أحذية رياضية، واستَغْرَبَ من أن معظمهم يحملون أكثر من ساعة في اليد الواحدة، فتعجب من اهتمامهم بالوقت إلى هذه الدرجة، وكانت جمهرة تلك المجموعة بانتظار أن يفرغ قائد الميليشيا من حديث له مع مراسل إخباري من التلفزيون، فسمِعَهُ الشيطان وهو يتحدث بنبرته البطولية عن طرد الارهابيين وإعادة الأمن والأمان للمدينة، وحين أنهى ذلك القائد حديثه ، أمسك الشيطان بيده وانتحى به جانباً وهمس في أذنه: استفد من هذه الفوضى ولا تكن مثالياً فلديك فرصة لأن تأخذ بعض الأموال مما هو موجود في هذه البيوت فقد مات أصحابها أو فرّوا منها، فَحَكَّ القائد رأسه مغمِضاً إحدى عينيه ثم قال للشيطان: هل أفهم من كلامك أنك توسوس في صدري أيها الشيطان العجوز ؟؟، قلت لي "بعض الأموال" ؟؟؟.. إذن تعال لأُريك ...-أُنظر هناك هل ترى قوافل الشاحنات الكثيرة التي هناك؟.
قال الشيطان: أراها بالطبع.
- قال قائد الميليشيا: إنها مُحَمّلة بما لا يخطر ببالك فأنا لم أترك في بيوت تلك المدينة متاعاً إلا وعفّشْتُهُ، أنا لَم أترُك حتى أسلاك الكهرباء في الجدران، فما عساكَ تقول ؟، لقد هرِمتَ أيها الشيطان وأصبحتَ مجردَ عجوزٍ خَرِفْ، اذهب من وجهي قبل أن أمسح بكرامتك الأرض.
بعينين دامعتين وقلبٍ كسير وَقَفَ الشيطانُ على حافةِ هاويةٍ يرغَبُ بالانتحار لولا أن دفقةً من الإيمان مَسَّتْ قلبه وذكَّرَتهُ بأن ذلك حرام.
سميح شقير
موسيقي وشاعر سوري