عن التاريخ والحقيقة والمستقبل


التاريخ حكاية الإنسان عن نفسه وعائلته وبيته وبيئته

لا شكّ أنّ التاريخ سجلّ للماضي بكلّ ما فيه، وقائعه وأحداثه الطبيعية والإنسانيّة، كتاب مفتوح لا تنتهي صفحاته، رواية تتعدّد بتعدّد الرواة، وتختلف في كثيرٍ من تفاصيلها وأحداثها باختلاف الراوي وموقعه، ومن فوّضه وكلفه القراءة والتسجيل. 

أفواج من الحالمين تطرق باب الأبد وطوابير من الحمقى والحواة والسفلة المتألهين تصطفّ وراء أبواب التاريخ لعلّ الورّاق يلمح سحناتهم المصفرّة وأيديهم القابضة على عنق الحياة بأظلاف من الفولاذ، فلا شيء يعدل امتلاك قصرٍ وارف في جنة التاريخ وليس كمثل شهوة الأبديّة. ولعلّ القوّة المطلقة من كلّ قيد تأشيرة مناسبة للولوج إلى عرش الخلود.

في الحكاية ينزوي الواقع ليكون طيفاً باهتاً للحقيقة ويغدو التاريخ مسرحاً للعبث والفوضى تتزاوج في فضائه الأضواء والظلال، وتتصارع على حلبته الملائكة والشياطين، وتتنازع حيّزه الأيديولوجيات والأساطير والعقائد. 

على خشبة المسرح يظهر أبطال الحكاية مفتولي العضلات مقهقهين شامتين في حين يركن البسطاء المهمشون فيما وراء الستارة السوداء مثل كومة من الأرقام المجرّدة، ذابلة بلا ملامح أو روح، أمّا الدماء فليست أكثر من دليل على هزيمة الألوان الباردة أمام لهيب الشهوة وجموح السلطة. ستنتهي المسرحيّة بهزيمة الحقيقة وبانتصار الملك، وسيصفّق الجمهور طويلاً للبطل وعشيقته ولكاتب النصّ قبل أن ينسحب مطأطئ الرأس بقلبٍ متضخّم وعينين زائغتين. 

المستقبل جنين ينمو في رحم الماضي

للتاريخ قوّة وسطوة، وسلطة قد تشلّ قدرتنا على قراءة الواقع، والنهوض به، إنّ الدخول إلى غابات التاريخ والخوض في قيعانه ومستنقعاته، يستلزم الوعي والمعرفة، فهو ليس نزهة هدفها التريّض والعودة ببعض الصور.

لقد دأب الطغاة على تزوير وقائع حقبهم المظلمة، والافتراء على الحقيقة، وتسخير المرتزقة لتطعيم مخازيهم وبهتانهم بماء الذهب، لكنّا سنجد في زحمة من تصدّى لتأريخ الأحداث والوقائع عديداً من المخلصين للحقيقة، لكنهم كانوا يسجلون ما يعيشون ويرون في كهوفهم المعتمة خشية مقصلة الطاغية، كما أنّ قدراتهم الفرديّة ومصادرهم الشحيحة لن تمكنهم من الإحاطة والمعرفة بجزئيات الحقيقة كاملة، وستكون رواياتهم على أهمّيتها ناقصة ومحدودة. 

الحقيقة تكمن في الماضي أي فيما حصل فعلاّ وانقضى، لا وجود للحقيقة فيما لم يحدث بعد، لكن ثمّة علاقة بنيوية بين الماضي وما يحمله من مآسي وألم، وبين المستقبل وما نحمّله من رغبات وأمل، إذ يشكل الحاضر حبلاً مشدوداً يصل بين أوّله المثقل بالإدانة وآخره المنعقد على البراءة، إنّ معرفة الماضي بما ينطوي عليه من مجاهيل وتفاصيل مغيّبة تتيح إمكانيّة إعادة التأريخ ومعالجة أحداثه، وإيجاد الآليّات المثلى للتعامل معه بما يسمح بتشكيل ملامح لمستقبل أكثر أمناً.

إنّ إعادة كتابة التاريخ ضرورة تمليها حاجة المجتمعات الإنسانية ومصلحتها في عالمٍ تسوده العدالة والقيم الخيّرة ويعمّ فيه السلام، ولا بدّ في سبيل ذلك من قراءة مؤسّسية للتاريخ وفق خطة وبرنامج واضح ومحكم، ومنطق مجرّد عن الأهواء والمصالح الفئوية والآنيّة المتوهّمة، ومن تطبيق المناهج العلميّة التي تمكننا من بناء سرديّة موحدة للماضي البشريّ. 

ينبغي للتاريخ أن يتحوّل إلى متحف كبير يشتمل على أجنحة عديدة واسعة، وحينها سيعمد المختصّون المعنيّون لوضع كلّ تفصيل في مكانه الصحيح، ولتظهير الكنوز في جناحها الخاص وإزالة ما علق فيها أو تراكم فوقها من طبقات الأتربة ومن غبار الأكاذيب والتضليل، كما سيضطرّون لتحنيط كثيرٍ من الوقائع والأحداث والشخصيّات والأفكار، ودفنها في جناحها ومستوعبها الزجاجيّ الملائمين.

التاريخ الحقيقي والمستقبل المشرق تصنعه الشعوب

لطالما خلّدت سجلاّت التاريخ الطغاة والمستبدّين، ونسبت البطولات والانتصارات والإنجازات العظيمة لهم متغافلة عن أصحابها وصنّاعها الحقيقيين، ومتجاهلة تضحيات الشعوب وجهودهم الجبّارة التي أنتجت الصروح الحضارية والإنسانية التي ما زالت باقية وشاهدة على إرادة الإنجاز والإعجاز. ولا تزال صور الطغاة تتبختر على صفحات التاريخ المسوّد بحبر الغواية والرعب، وقد أمسوا أبطال أسطوريين ورموزاً لخلاص البشريّة، وما برحت الحقيقة ترتجف من هول آلة التزييف والتحريف، ترزح تحت طبقات من الأكاذيب والتضليل، وتئنّ بين قبضات قوّة عارية تحاول خنقها ومحو وجودها.

لا قدسيّة لتاريخ يكتبه المستبدّون والمجرمون. إنّ ما يسجّله الشعب السوريّ في ثورته التحرّرية والروحيّة والإنسانيّة، وما واجهه من قهرٍ وظلم وعسف، وما سيكتبه في سجلّ البناء والعمران والإبداع، هو التاريخ الحقيقي، وهو المعلّم الكبير للبشريّة، ومادّة الماضي التي ينبغي تدريسها للأجيال بكلّ ما تنطوي عليه من تفاصيل مؤلمة.

 

 علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 
 
Whatsapp