أزمة الوعي والبناء


 

 

 

كانت الثورات ومازالت فرصة تاريخية للشعوب المحكومة بالظلم والاستبداد لتتخلص ولتحكم نفسها بنفسها، لكن أثبت الواقع والتاريخ أن الشعوب التي تكون ضعيفة البناء لا تتقن إدارة نفسها ومعرفة مصلحتها أين تكمن، والطريق الموصلة إليها، فسوف تكون مرتهنة لمن يديرها وكجزء من خطة الآخرين لأنها لا تملك خطتها والآلية الموصلة إلى هدفها، فهذه الشعوب تعرف ماذا تريد، لكن لا تعرف سبل الوصول إلى ما تريد.

هذا هو الفرق بين الشعوب ذي البناء الجيد المحصنة بالوعي السياسي والاستراتيجي، فتعرف ما ينفعها ويحقق مصلحتها والطريق الموصلة لذلك وكذلك تعرف ما يضرها، ولديها إحساس واستشعار بأي خطر محدق قبل وقوعه، فهي تملك المستوى الجيد من الوعي الجمعي فلهذا تجد أن بعض الشعوب قلّما تنطلي عليها أنواع الخداع والألعاب السياسية والأمنية قياساً مع  شعوب أخرى، ولعل أكبر تحدي مهم للتغلب على ضعف البناء الشعبي هو إشاعة المعرفة والوعي، كذلك دور الزعماء الشعبيين والنخب القوية المحصنة بالثلاثي المهم من الصفات لأي دور قيادي يعمل في الشأن العام، وهي "الخبرة والقدرة مع الجرأة" فهذه التي يجب أن تتحلى بها أي قيادة تتصدر شأناً عاماً لاسيما في أوقات الصراع والأزمات، فالحاجة تكون أكبر، وتكبر الحاجة أكثر، في حال كانت بنية الوعي والمعرفة ضعيفة لدى هذه الشعوب، إذ لابد من وجود ما يجبر ويدعّم البناء الشعبي، ويدفع الناس لما ينفعها بكل سبل التأثير والتوجيه فتتغلب على الصعاب والمخاطر وتتجاوز المحن، لذلك فإن الجانب الرئيسي في الصراعات هو التركيز على ضرب وتشويه الزعماء والقادة ممن يتمتعون بأوصاف القيادة الحقيقية أو لديهم نواتها والدفع بالضعفاء والصعاليك وقادة الصدفة لسدّة التوجيه، والذين هم أصلاً يحتاجون للبناء، لأن فاقد الشيء لا يعطيه .

اليوم إذا ما حاولنا تعريف القيادة كمصطلح، فهناك تعريفات كثيرة جداً، وأبسط تعريف للقيادة هو القدرة على توجيه الناس نحو الهدف، وهذا يحتاج إلى القدرة والخبرة مع الجرأة. والأحزاب والتيارات والجماعات هي حاضنات تتبلور فيها الخبرات وتنمو، والشعوب التي تقل فيها الشخصيات القيادية المعدّة إعداداً جيداً تتعثر كثيراً وتخطئ لتتعلم من أخطائها فهي بلا خبرة تنقذها وتوجهها، والخبرة تأتي من التجارب الكثيرة والمعرفة العميقة، والشعوب التي تعم فيها الفوضى، ولا تفرز قياداتها القوية أو تنقاد لهذه القيادات يكون نجاحها نادرًا، فالشعوب الضعيفة هي التي لا تقود ولاتقاد.

 كل الذي مرّ ويمر على المنطقة عموماً وسورية خصوصاً ينبغي أن يكون كافياً لتفجير الوعي في مجتمعاتنا وعقولنا، كي تحصل هناك مراجعات وتحولات في التفكير والسلوك الذي أوصلنا إلى اللا شيء حتى اليوم، وقد آن الأوان لنتعلم من ركام الأخطاء التي أوصلتنا إلى كل هذا الركام من الكوارث، ليتفجر الوعي بعد هذا المخاض العنيف ولنستشعر الأخطاء قبل الحدوث ونخطط ونفكر ثم ننفذ قبل فوات الآن، لاسيما أننا كنّا نفكر في وقت التنفيذ.!

الشعوب التي تترك قرارها لقادة الصدفة والقادة الضعفاء أو تترك أمورها فوضى تتجاذبها الرياح الدولية، وحيث هبت، فهي سوف تؤكل على مائدة خداع أعداءها، فقد آن الأوان لامتلاك نوعًا من النضج والوعي وإعادة التفكير والأخذ بكل أدوات الدهاء والنجاح وترك البساطة والسذاجة حتى لا نقتل مرتين ونخسر مرتين.

فلا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم    ولا سَراة إذا جُهّالهم سادوا

تُلفى الأمور بأهل الرشد ما صلحت   وإن تولت فبالأشرار تنقاد

 

 

د_ زكريا ملاحفجي

كاتب وباحث سوري

 
Whatsapp