شريعة التعصب


 

استدركت امرأة من عوام المسلمين، في قضية تحديد المهر، على الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بالرغم من أنه كان سيد العالم في حينه، ومحط إجماع المسلمين على جدارته الشرعية والسياسية لقيادة دولة الخلافة، ومن الولاء والمودة اللذين انعقدا له.

هذه الحادثة مقياس دقيق لفهم حقيقة التدين، وطبيعة الولاء، ونوع الانتماء الذي تحلى به المسلمون الأوائل، وهو معيار، أو هكذا يجب أن يكون، لدى المسلمين من بعدهم.

أسوق تلك الحادثة في سياق التفاعل الذي ولّده قتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، والفرصة المناسبة التي حصلنا عليها، من وراء ذلك، لقياس أفكار الناس وطبيعة انتماءاتهم وكشف الحدود الفاصلة بين الانتماء والعصبية العمياء.

لاعتبارات محددة، قد يكون مفهومًا سبب التناقض الظاهر في خطاب بعض الحركات الإسلامية، وعلى رأسها حركة حماس الفلسطينية، التي تبني شرعيتها السياسية، على مقاومة الاحتلال ودفع الظلم، بينما تمنح رجلاً مثل قاسم سليماني وصف شهيد، بالرغم من سيرته طوال الأمنية والعسكرية الممتدة لعقود، في خدمة نظام الحكم الإيراني، وقتل وقته كله في تنفيذ مشروع طهران التوسعي في قلب المنطقة العربية، ولو اقتضى ذلك تحالفاً، غير معلن، مع الأميركيين على احتلال العراق أدى إلى سقوط مئات آلاف القتلى في هذا البلد العربي، وتحالفاً مباشراً، تحت ضوء الشمس، مع روسيا على إسقاط ثورة الشعب السوري، أسفر عن قتل مئات الآلاف من المدنيين، واعتقال عشرات الآلاف، وتهجير الملايين، وإعادة هندسة سورية ديموغرافيا بما يتناسب مع المشروع الإيراني الظاهرة أبعاده الطائفية.

اللافت في تداعيات موقف حماس، وأخواتها، هو داء العصبية العمياء الذي رشح عن أنصارها، وتبرير كثير منهم لفعلتها تحت عنوان: "الضرورة"، مثيرين بذلك أسئلة عاصفة عما إذا كان الثناء على رجل مثل سليماني، واعتباره شهيداً، بما ينطوي عليه المصطلح من دلالات شرعية ونفسية في العقل الجمعي المسلم، من الضرورة، وإذا ما كان تعميده، على لسان كبار قادتها، "شهيدًا للقدس" ضرورة، أم تصريحاً "نكائياً" بمن انتقد موقف حماس، هذا إذا ما سلمنا بأحقية أحد من الناس في منح الشهادة لأحد.

كثير من أنصار حماس، وأخواتها، من يعيش "رُهاب" تخطيئها، ويدفن رأسه في الرمال مع أول انتقاد لها، ناهيك عمن يطعن ويسب ويخوّن كل من يختلف معها في مقاربتها، وللأمانة فهذا لا ينطبق على أنصار الحركة فقط، وإن كان أشد ظهوراً في حالتها، وإنما هو حالة معممة في واقعنا، تلقي بظلال فوضى الولاء الأعمى على جلَّ شرائح المجتمع.

ما يحصل هو تجسيد عملي للوثةِ عصبيةٍ تسري في أوصال المنطقة، تعمّي الحق والحقيقة عن أعين الناس، بالرغم من وضوحهما، وهذا واقع يفسر بشكل أو بآخر، حالة الخواء الفكري والسياسي، وتفكك النسيج المجتمعي، الذي تعيشه منطقتنا، ويغذي عملية تفريغ المجتمع من طاقته المكتنزة، ويشتت جهود قواه الفاعلة، ويصرف تركيزه إلى صراعات بينية.

اليوم، تحولت العصبية العمياء إلى طقس، لم يسلم من "جاذبيته" حتى المثقفون والكتاب والعلماء، فصار الحزب وطنًا، وصار الوطن ديناً، ومن أجل "دين" و"وطن" متوَهَّمَيْن في عقول المتعصبين، تنشأ معارك كلامية، وجدالات بيزنطية تميط اللثام عن اختلالات نفسية ورثتها مجتمعاتنا من رحم الاستبداد السياسي الذي عاشت في ظله، فصار مألوفاً أن ترى أحدهم يوالي في الحزب ويبغض فيه، ويعيش للعشيرة ويموت من أجلها، ويصنّف الناسَ، أصدقاءً أو أعداء، أحباباً أو مبغوضين، بناء على اتفاقهم معه في الرأي من عدمه.

ربما وصلنا إلى مرحلة، لم يعد مجديًا، فضلاً عن أن يكون مطلوباً، إخبار حماس وأخواتها أنهم على الضفة الخطأ في بعض مواقفهم السياسية وتصريحاتهم، وأنهم من أجل "مصالح" عاجلة، يضحون برصيد استراتيجي، وعمق جغرافي وديموغرافي عربي وإسلامي، لا يمكن لهم الصمود والبقاء بدونه، وبدلاً من ذلك، المطلوب هو معالجة ظاهرة غلواء التعصب التي تنخر في مجتمعاتنا، يكون الهدف منها توليد مناخ فكري، عبر مؤسسات مختصة، ومدارس وجامعات، ومساجد، ومنافذ إعلامية، وندوات ومؤتمرات، تغذي كلها قيم الحوار، وقبول الآراء، وإقناع الناس بنسبية الصواب لدى كل منا، واستحالة احتكار الحق والحقيقة، على طريق مكافحة "فيروس" العصبية العمياء، الذي أوهن مجتمعاتنا، وعطل قابلية إقامة حوار لا ينتهي بتهم متبادلة وشتائم.

 نحن جميعاً معنيون بمكافحة هذا الفيروس، حتى لا ينهار نظام المناعة في مجتمعاتنا، وتستوطن هذه العصبية في هندستنا الوراثية.

 

 

جهاد عدلة

كاتب وإعلامي سوري

 
Whatsapp