صدر كتاب "الهويات القاتلة" للكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف بترجمته العربية عام 1999 فأثار جدلاً لا يزال قائماً حتى يومنا هذا.
من الجلي أن الكاتب يأخذنا للتفكير خارج الصندوق الذي انتمينا إليه بحكم التعليم التأطيري والإرث الثقافي، والمعتقدات التي تحوّلنا إلى آليات تصنيفية، ليتخندق كل منا وراء هويته الانتمائية بمستويات تتصاعد لتصل في شكلها المتفاقم إلى التزمّت والتعصب، والإحساس بالفوقية والتمييز، وإقصاء الآخر (الذي ليس منا) سواء كان ذلك التصنيف دينياً (الأديان السماوية وباقي الأديان) أو مناطقياً (المدينة والريف، الشرق والغرب، البدو والحضر) أو لغوياً أو حتى عائلياً. تعصبٌ قد يؤدي وفق مراحله إلى تباهٍ مهذب، أو رفض لفظي علني، وفي حدوده القصوى إلى تنابذ واقتتال، وتالياً إلى حروب ودمار وموت، ومن تلك الزاوية بالذات يأتي عنوان الكتاب وقصدية الكاتب بـ "الهويات القاتلة".
في الحقيقة أن العالم صار شئنا أم أبينا أكثر انفتاحاً وأصبح العرق الصافي معدوماً أو شبه ذلك، فعلى سبيل المثال هل هناك ما يثبت أن السوريين عرق عربي صاف؟. الفرد في وقتنا الحالي، شرقاً وغرباً، كائن متعدد الثقافات، متعدد الأنساب، كنتيجة حتمية للحروب والهجرات والزواج المختلط، ما يجعل اختزال الهوية بانتماء واحد أمر أشبه بالمستحيل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى وأنا هنا أقتبس من الكتاب "الهوية لا تتحدد بشكل نهائي بل تتكون وتتحول طوال حياة الانسان".
إن هويتي هي اختياري الناتج عن معرفتي تتكون من خلال تراكم الأفكار والتجربة، وليست بالمطلق بما حدده لي التلقين والمجتمع المحيط، فالهوية متحركة وليست انتماءً نهائياً لتصبح قادرة على قبول الاختلاف، وهذا ما يسمح بتأسيس هوية جامعة ضمن التجمعات الانسانية. ومن المهم لتوضيح الفكرة مشاهدة فيديو يبحث في نقاء الأجناس فوفقاً لنتائج فحص الحمض النووي (دي ان اي) نكتشف أن التعصب العرقي محض هراء.
يفند الكاتب أيضاً فكرة التسامح فيفسر عبر مقارنة، قد تبدو للكثيرين مجحفة، أن المسيحية انتقلت من التشدد إلى التسامح حين راجعت الكنيسة مواقفها في مواجهة أفكار كانت ترفضها كالجمهورية، وفصل الدين عن الدولة والعلمانية، على العكس من الإسلام الذي كان متسامحاً وانتقل إلى التشدد، ويُفسر ذلك بأن الشعور بالأمان وازدهار الاسلام جعل المجتمع أكثر ميلاً لتطبيق قيم التسامح على غير المسلمين، بمعنى أن التهميش والإلغاء والشعور بالخطر الذي نشعر به حالياً في مواجهة حضارة الغرب المتنامية هو ما يجعلنا أكثر تشدداً، وبالتالي نأخذ دوراً قاسياً لتهميش الآخرين، ففي عصر العولمة وأنا أقتبس هنا " نحن أمام صراعين إما التطرف وما ينتج عنه من اصولية.. أو فقدان الهوية وبالتالي الاضمحلال.."
لكن لماذا لجأت الشعوب إلى التمسك بمعيار الهوية الدينية؟ حدث ذلك بعد أن خسر المد القومي صدقيته، كما انهزم الفكر الماركسي والشيوعي وبقيت الأديان كاستجابة حتمية لتأكيد الهوية. ليس فقط الاسلام، فاليمين المتطرف في أوروبا هو أحد أشكال التعصب غير الواعي.
بالمحصلة: إن ارتباط التمسك بالهوية بالعنف الخارج عن السيطرة يجعل هويتنا أكثر عرضة للرفض والامتهان، أما احترام الثقافات وبناء علاقات انسانية تقوم على التبادلية والاحترام، فإنها تؤسس لهويّة جامعة "غير قاتلة" ذات تأثير إيجابي نافع يحمينا من شرور الهويات القاتلة، ويمهد للسلام على هذه الأرض.
الجدير بالذكر في النهاية أن معلوف حاز على جائزة الصداقة الفرنسية العربية لعام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، وجائزة "غونكور" لعام 1993 عن روايته "صخرة طانيوس"، وجائزة المتوسط عن روايته "بدايات"، وجائزة "فييون" عن بحثه "الهويّات القاتلة".
سوزان خواتمي
قاصة وكاتبة سورية