لا تحاولي ولا تسألي يا شهد عن صيفنا...
كان ناعماً بل رهيفاً كجرح لأن حزنكم مرّ يوماً عليه ..لم نكن نجرؤ على لمسه كي لا يتوجّع الحرير في أعماقكم، فيهرهر الياسمين بدوُرِنا.
كنّا نخشى على ياسميننا لأنه إذا هرَّ كثيراً تغار قمامة العالم من بياض قمامتنا، والأسود يحسدنا من أناقة ليلنا ومن خصر دمشق الوارف وعلوِّ جيدها وكتفها "المُقدّر".
أكيد أنك عرفتِ يا شهد ما معنى أن تملك الأنثى عندنا كتفاً مُقدّراً، أي أنها عريضة الأفق ينام على يسارها بردى، وعلى يمينها تحاول "التكية السليمانية "أن تغفو قليلا.. حيث يقضّ مضجعها المتحف العامر، لا بالتاريخ ولا بالأوابد، بل بالضمائر الحيّة التي لا تموت.
نحن بخير يا عزيزتي ..أنّى حللنا تلحقُنا فيروز بعتابها وأغانيها، تحاول أن تجد نكهة قهوتنا وهيلها المغليّ في كل مقهى توزعنا به على أرصفة الكون.
ما زالت بناتنا جميلات شقيات غير أنهن كبرن قليلا عندما صغُر الرجال والجميع أمامهن.
لم نعد نشتري العطور المُعبأة ولا الماركات العالمية، فكل هذا لم يكن يعنينا كما تعلمين لأننا أغنى من أن تخدعنا ماركاتهم المهتمة جداً بحقوق العطر، وبمغاسل الكلاب الأنيقة وسلاسلها التي تفتح الى المدى المطلوب به للكلب أن يتحرك. فنحن مع احترامنا لوفائها لم نأبه يوماً للكلاب.
أُطمئنك ما زلنا "نلبس الجينز مع أي قميص ليصبح مبهراً وغالياً" لكن البئر كانت أعمق من أن تُبقي بنسيجه رائحةً تُعيد النظر للأعمى فكل القمصان أصبحت قميص يوسف. لكن أُبشركِ ببُعد في النظر يرقى الى زرقاء اليمامة.
نعم حملنا معنا جامعة دمشق وكشاكيل طلابها البيضاء ومساطر هندساتهم التي لا ندري كيف كانت تترك كلياتها وتنسحب خلسة الى مقصف الآداب خلف الجميلات من طالبات الأدب الإنكليزي والفرنسي.
لم يعد الحب حكراً على كلية الآداب لأنه رحل الى أدبٍ تكتبه الشواطئ ... وتعلمين أن تكلفة الحب العظيم باهظة وثمنه هو الموت فقررنا ألا نعشق بعظمة، وألا نموت بحب.
لا بدّ أنك قرأت يا شهد على بعض مؤخرات سيارات الأجرة "لا تلحقني مخطوبة" كأن السائقين عندنا كانوا يتنبؤون بأدب المنظمات الدولية ومجلس اللأمن.
لم نعد نزدحم حول المواهب الجديدة. صرنا نُطّير زواجل أرواحنا تحمل الرسائل الى نكهة المنافي وطعم الحنين.
أمّا عن صحون اللوز الأخضر المثلج وقطع الجزر المغسول جيداً، وحبات "الأكيدنيا" و"الجانرك" فقد استعضنا عنها بغسل أنامل الأطفال جيداً من ثلوث الكيماوي على أكفانهم.
لم نعد يا شهد ننظر الى الوراء كما كنّا نفعل لنسعف المتأخر بل نُسابق الزمن لنكمل بمن تبقّى منّا ..، فصيد الحرية لا يأتي بأفخاخ العصافير، والأنهار تموت ولا تعود الى الوراء. لم نعد نعتب على أحد. يكفينا ما أسس "العشب من حضارة أوكسجين كاملة" كما تفضلتِ، لذلك نكتب ما هو مختلف عن شجر زيتونهم وزيتاً، يراه غيرنا للأكل، ونحن نراه لقنديل الكائنات ضياء.
استقبَلَنا الغرباء بديارهم ونصب الجيران لنا الخيام التي نربأ أن ننصبها لأحد.
عندما نختلي بأرواحنا نفكرّ: هل نستطيع يوماً أن نفرض تأشيرة دخول ونُلزم المستجير برسوم إقامة؟!!!
كأن ما أحد شرب من مائنا وأكل من خوخنا ومشمشنا وتوتنا
كأن ما أحد أكل الفستق الحلبي من شوارعنا والذرة المشويّة من قاسيوننا.
كم هي غنيّة ومترفعة وكريمة نفوسنا
لم نكن ننظر في غير مرايانا لنعرف ذواتنا
لكننا حين نظرنا في مرايا غيرنا، عرفنا كم نحن جميلين ومدمشقين وأعزاء.
لا يلزم أبداً أن خبرك كيف يجمع السوري " أمواله الخفيفة التي لا تأتي بسهولة كي يحتفل بأعياد الميلاد" لكنني أُضيف يا عزيزتي: برغم دخله الهزيل وعيشه المستحيل صكّ عملته الخاصة من مادة صمته وتحمّله ومعاناته فاغتنى بكرامته، وفقُر بحريته، وثار بالاثنتين.
لم يضع السوري أمواله في البورصات ولم يخف هبوطها، لكنه كان يُدرك جيداً أن للحرية سلة من عملات الدمع، واحتياطيّ من ذهب الكرامة لذلك لا تهبط أبداً.
فتعلّمنا من فرحة الأعياد أن الحزن مادة ثمينة تشبه الستر فلا نهتكها مع أحد.
أشياء في الحياة لا تتجزأ يا شهد. من يليق به الحزن يليق به الفرح.
يقبروني ويقبروا قلبي السوريون ومن يحبّهم.
ابتسام الصمادي
شاعرة وكاتبة سورية