السنديانة


بعد أن طال الزمن لشهور وسنوات دون أن يكون هناك بصيص أمل لرؤية مدينتي ومنطقتها الرائعة، فقد دفعني الحنين لكي أستذكر جانباً من مشاهداتي الماضية، وها هي بعضٌ من تلك المشاهدات المكنوزة في الوجدان:

 على مرمى حجر من مدينتي الصغيرة، تنتشر سفوح جبلية عالية ورائعة في طبيعتها المخضرّة، وقد أغرتني، كما أغرت غيري، أكثرَ من مرة بالتوجه إليها والتجوال بين شعابها وقضاء فترة من الوقت عبر مجاهل غاباتها التي تتميز بشجر متنوع الأشكال والألوان، ولا سيما السنديان. 

وما يزيد الرحلة متعة وتنوعاً، أن مَن يقصد تلك السفوح، لا بد له من المرور بنهر العاصي وقضاء بعض الوقت على شواطئه، حيث شجر الصفصاف الذي يتدلى على الشاطئين، وكأنه يحاول أن يحنو على مياه النهر الرائقة الصافية التي لم تَغْزُها بعدُ ملوّثات الحضارة، بحيث يمكن للعطشان أن يشرب منه ويرتوي هنيئاً مريئاً بأمان واطمئنان.

تلك السفوح الجبلية تحتضن شجرة السنديان، كما تحتضن الأم وليدها، وأينما يتوجه الإنسان هناك في تلك السفوح، يجد تلك الشجرة فوق هذه الرابية أو في منخفض ذلك الوادي.. منها الطفلة الوليدة، ومنها الفتيّة الناهد، ومنها الممتلئة قوة وعافية وشموخاً. وهكذا تترسخ تلك الشجرة أجيالاً إلى جانبها أجيال، تعيش معاً وتعمق وجودها بين الهضاب الصخرية الوحشية، وتبقى تمارس وجودها مائة عام، بل ربما مئات ومئات، وكأن الزمن، بطبيعته التي تُفني وتُبدّد، يتهيّب من الاقتراب من تلك الأشجار، أو أنه حاول ذلك مراراً منذ دهور ودهور، فلم يستطع النيل منها، فأصابه كما أصاب وَعْلَ ذلك الشاعر الذي قال: 

          كناطحٍ صخـرةً يومـاً ليوهِنَـها 

                              فلم يضُرْها، وأَعيى قَرْنَه الوعلُ  

ثمرة تلك الشجرة، يُطلق عليها " البلّوط "، وتتميّز عن غيرها من ثمار الدنيا كلها، فهي من حيث لونها وشكلها وطبيعة حجمها تشبه رصاصة مسدس من العيار الثقيل، وثانياً، يوجد في رأسها ما يشبه الشوكة التي تذكّرنا بالقول الشعبي المعروف " فلان شوكة في عيون الأعادي "، وثالثاً، يمكن أن يكون لُبُّـها غذاءً لجيرانها سكان الجبال والجُرود، حين يكون الجوع في أيام الشتاء القاسية القارصة سيّدَ المواقف كلها.. وهي تُشوى كما تُشوى شجرة الكستناء، ويكون طعمها مقبولاً ومستساغاً في فم الجائعين. 

وحتى أقطع الطريق على كل مَن يريد أن يشكّك بهذه المعلومات الهامة التي أقدمها، وبمصداقيتي التي تحتضن تلك المعلومات!! فإنني أقسم بالقلم، أو بالحاسوب الذي بدأ يحلَّ مكان القلم؛ هي ذي ثمرة البلوط، أُمسكها الآن بيدي اليمنى، وأفتلها بين أصابعي، وأنا أكتب هذه السطور باليد اليسرى، وأتأمّلها تأمُّلَ المندهش من صلابتها وتكوينها الرائع، كصلابة وتكوين أمها شجرة السنديان. وهذا ما يجعلها تصمد أمام عاديات الزمن، لا يأتيها العطب في قشرتها أو لبها طوال أيام الشتاء. 

وإذا ما انتقلنا إلى غريزة حب البقاء وقانونه الطبيعي، لوجدنا أن من طبيعة شجرة السنديان، حين تنضج ثمارُها، تقذف بذلك البلّوط عن حكمة ودراية، وبسرعة وفجائية، تماماً كما تنطلق الرصاصة من المسدس، فينغرس بعضها في الأرض، حيث تجد التربة الملائمة للنشوء والارتقاء، بعيداً عن الشجرة الأم.  

وهكذا، بعد حين، تتحول الثمرة المدفونة في الأرض إلى جنين، لا يلبث أن يطلّ برأسه عالياً نحو الضوء والهواء برعماً يمتلك الطراوة والعنفوان معاً، ثم يتفرع في الآن ذاته ويتجذر ويمتد في باطن الأرض وفوقها، حتى يتشكل كحلقة دائرية خضراء ممتدة، لا تفريق بين الجذور والأغصان، فالكل يتشبث في الأعماق، والكل يطمح نحو الأعالي، حتى إذا آنَسَت تلك الجذورُ والأغصانُ القوّةَ على التحدي، والقدرة على النهوض، يصعد من وسطها غصن، بل جذع  واحد، هو الأقوى بين الجميع، ويبدأ بالتنامي والتطاول، دون أن يهاب المنون، فكل ما في تلك الحلقة الدائرية الخضراء، من جذور وأغصان، تحميه وتحرسه وترعاه بكل ما تحمله من حنانٍ ونباهةٍ وتوثّبٍ وغضبٍ من كل من يحمل في نفسه أدوات الشر والجريمة، ويحاول أن يعتدي على حَرَم تلك الحلقة الدائرية الخضراء.

 وتبقى الحال هكذا، حتى يتطاول الجذع ويلتفّ على نفسه بقوة وتمكّنٍ، ومن ثم يتكون شجرةً متناسقة بأغصانها وفروعها واخضرارها. وآنئذٍ تبدأ الأم الحانية تصفرّ أوراقها وتنشف، ويدبّ فيها اليباس والتلاشي، بعد أن تطمئن على أن شجرتها الوليدة أصبح لديها القادرة على حماية نفسها والدفاع عن وجودها وبقائها، فتموت مطمئنّة راضية. هكذا هي سنة الحياة في عالم أدعوه عالم السنديان.   

والآن، عليّ أن ألتقط أنفاسي قليلاً، وأُغمض عينيّ حالماً بجلسة هادئة، أسند فيها فكري المرهق وظهري المتعب على جَذع إحدى تلك الأشجار، وأنعم بالفيء تحت عنفوانها، ثم يخيّم التساؤل التالي فوق ذهني وذاكرتي: ليتني أدري ما الذي دفعني لكي أتحدث هذا الحديث المستفيض عن شجرة السنديان. هل هو اليأس العربي الذي يمتد ويستشري في طول البلاد وعرضها، بجبالها وسهولها ومياهها وصحاريها وأرضها وسمائها، وفي وقت أرى فيه الهشيم خانعاً، صامتاً، هشّاً، ضعيفاً، يابساً ومتكسراً.!!؟. 

أم هو الأمل الذي أبصره وألمسه وأحسّ به في وجداني، يَنْبَني حجراً فوق حجر، وقطرة َدم في إثْر قطرة دم، وروحاً تُبذل راضية بعد أخرى، ليصعد من وسط كل ذلك الفداء الإنساني النبيل جَذْعُ وطن، متناميةٌ ومخضرّةٌ أغصانُه، هكذا دون اكتراث بذلك الهشيم الخانع الضعيف، تماماً كما صعد ذلك الغصن السنديانيّ الأبيّ من وسط تلك الحلقة الدائرية الخضراء، ليصبح فيما بعد شجرة صلبة شامخة..!!؟. 

 

عبد الرحمن عمار

شاعر وكاتب سوري

 
Whatsapp