بكاء لإدلب


 

 

في متابعتي اليومية للثورات العربية اتضح لي أن النظام السوري من أسوأ الأنظمة العربية الموجودة وأكثرها وحشية ويكتسب شرعيته من قبل النظام العالمي المادي للإنسانية وللحرية.

النظام السوري لم يعترف نهائياً بوجود ثورة لها مطالب مشروعة يجب تنفيذها واحترامها بل اتهمها منذ اللحظة الأولى بالاندساس والخيانة والإرهاب، وقمعت شرارتها الأولى بالرصاص وفي مرحلتها الثانية اتخذ النظام قراراً بإبادة الشعب السوري الثائر من خلال القصف الجوي والتدمير والتهجير، ولأنها أم الثورات العربية لم تسمح الأنظمة العربية الديكتاتورية بتكرار تجربتها في الدول الأخرى، ولأن أوروبا لن تحتمل حركة نزوح أخرى ولن يحتمل الوضع ضخ عسكري آخر، وقد أصبحنا مؤخراً مضرباً للمثل وأصبحنا الفزاعة التي تهدد فيها الحكومات شعوبها:

  •  هل تريدون أن يكون مصيركم كما سوريا؟

وهذا المبرر الأول والأخير باعتراف الحكومتين العراقية واللبنانية بالثورات في بلادهم ومحاولة التهدئة ودس التخدير الموضعي من خلال الخطابات الجاهزة والمعبئة خصيصاً لنا من قبل دولة إيران ولكن هيهات أن تتخدر جروحنا بعد اليوم وهيهات أن تتوقف أصواتنا بعد اليوم.

ما أشبه اليوم بالبارحة وكأن الصورة تعيد نفسها فتُحييّ أصواتاً في أقبية السجون عذبت ومن قاع المحيط انتشلت وفي برد الخيام دفنت أحلامها وشعاراتها.

رصاص مع بداية أول شرارة سقط على رؤوسنا كزخ المطر وصوت سميح شقير يتردد في صدى الطرقات والأزقة ويقول يا حيف ...

كلما فاض بركان لثورة ما في بقعة ما ينتفض قلبي لطوفان الذكريات وأبكي على ناصية الطريق تمر قوافلهم أمامي حين هجروا وحين غرقوا وسجنوا وعذبوا وأصبحت عناوينهم الخيام ونوافذ منازلهم الشتات، ترجف الصور في مخيلتي وأبقى هناك.

اسمع أصواتهم تمسح الدموع وتقول لي سلمية حرية، الشعب يريد إسقاط النظام، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد ....

لكم كل الحب يا ثوار المكان والزمان، أينما حللتم وكلمة حق في وجه الظالم نطقتم.

إذا أتى الشتاء يا أمي ودقت الحرب أوزارها وكشر الأسد المختل عن أنيابه، يُغتال ما في الحقل من طيوب، ويأتي إليّ الحزن من بقايا الأشلاء، يأتي كطفل شاحب غريب مبلّل الخدين والرداء فأحضن ما بقي من فتات وأسلم أمري إلى الله في سكوت.

ما أقسى صفعات الحياة وما أصعب أن تتنكر لك الدنيا وتدير ظهرها ويصمت صوت الحق ويرحل الضمير وتتذوق تلك الأنامل الصغيرة العلقم ونحن في أسرتنا ننعم بالدفء، وعلى موائدنا أشهى أنواع الطعام وهناك في الأزقة الممطرة ضحكات أطفالنا وزينة للميلاد تبتسم على جراحهم.

كيف لنا أن نكون قساة القلب مجردين من المشاعر لهذه الدرجة وتستطيع أعيننا النوم وهم يفترشون العراء، لا كلمات يا صغاري تسعفني هنا ولا شيء يغفر لنا، يا إلهي كمية التناقضات التي نعيشها في اللحظة وكمية الكذب التي نسيج بها حياتنا، تحول قلبي إلى قطع تتمزق رويداً رويداً آخرها اليوم، في العراء في صمت الشتاء وبكاء الأطفال من الجوع والبرد ونحيب يمزق رداء السماء تخجل من عجزها فترفع يديها لتدعو الله.

أمشي في شوارع المدن المزينة السعيدة كأنني أسير في مدن للأحلام مصنوعة من الحلوى، أحاول الابتسام وأنا التقط الصور فتغتالني صورهم وصمت العالم المريب من حولي وكأن هذه البقعة من الأرض غير مهمة وهؤلاء الناس ليسوا بشراً بل مجرد عبء على الحكومات وعبء علينا.

تمد يدها نحوي لتستمد الدفء تبذل ما بوسعها ثم يختفي طيفها وتلتصق صورتها في عالمي المريح الهادئ ومن تشردهم نتدفأ، من جوعهم نأكل وعلى حزنهم نرقص فرحاً، ونتنكر لهم حتى بكلمة، حتى بحرف ابتداء من دمشق وساحات التعري اللاأخلاقي وصولا إلينا نحن هنا الذين ننكر أننا منهم، واليهم كل الشكر لما صبروا واحتملوا وصمدوا حتى الرمق الأخير، ونحن هنا في بلدان اللجوء يسكننا الخذلان والخوف والكذب أكثر ما يمثلنا ويشبهنا تماماً كمية الكذب والتناقض التي نعيشها.

سامحوني يا أطفال الثورة كم خسرتم وكم تحملت قلوبكم الصغيرة، سامحوني جميعاً إنني اخجل أمام عظمتكم، لم يخطر ببالي بهذه اللحظة سوى صورة أطفالي في العراء بلا مأوى والبرد ينهش طفولتهم لا طعام لا شيء سوى السماء وفاض قلبي بألم لا يشبه الآلام ربي صبر قلوب الأمهات.

 

 

رامة إسماعيل

شاعرة وكاتبة سورية

 
Whatsapp