في أزمة التشييء


تحاولُ المكوث في المنزل لأداء بعض الواجبات أو الأعمال المتراكمة، فتجدُ نفسك مُنساقاً إلى منصات التواصل الاجتماعي فتهدر وقتك وأنت تراقب العالم وهمومه، تُقرّرُ أن تخرج من المنزل لتأخذَ قسطاً من الراحة في الطبيعة بعيداً عن الإنترنيت وفضاءاته الوهمية، فتجدُ العالم من حولك يضجّ بصخب الأشياء لا الهواء، تنوي أن تأخذ أولادك يومَ العطلة إلى نزهة عائلية فتجدهم يفضّلون الذهاب إلى المولات لا الحدائق، واللعب بألعاب الـ (الثري دي) بدلاً من الأراجيح والتراب، ويطلبون طعاماً سريعاً مليء بالسموم والزيوت والسعرات الحرارية، وحتى أثناء جلوسكَ معهم لتناول الطعام أو شربِ فنجانٍ من القهوة فإن أحدكم لا يأبه بالآخر ولا يستطيع النظر بعيونه أو التركيز بتفاصيله وهمومه، كون هذه الأماكن مزدحمة جداً، وصوت الضجيج يعلو كلّ أرجائها، فتتفاجأ بهذا الضجيج، وتتساءل لمَ هؤلاء العالم متعجلّون صاخبون متسارعون لفعل أشياء لا قيمة لها؟ (هو ضجيج اللا شيء) أو بالأحرى ضجيج التشييء الذي تجد نفسك قد حُشرت داخله، ومهما حاولتَ رفضه والتملّص منه فإنه يلاحقك، في كل مناحي حياتك.

تحتكّ مع آخرين، تبحث عن صداقة في منفى لا يعرف سوى أنك لاجئٌ ضعيف معرّض في أي لحظة للأذية، فتجدُ الآخرين من حولك يبحثون عن أشياء، لا أحد مهتم لأن يسمع قضيتك، ولِمَ أنت تعيش هذه الغربة، فزملاؤك في العمل يبحثون عن إعلانات مميّزة لشراء ملابس جديدة عن طريق الإنترنيت وفقَ أفضل العروض وأكثرها جاذبية، ومعلمتك في صف تعلّم اللغة الجديدة التي أُجبرتَ على تعلّمها، تخصّص درساً كاملاً لإرشادك حول أفضل المحال و(البراندات) المتواجدة في البلد الجديد حيث لا أنت، لا ماضيك، لا روحك ولا مستقبلك، وأي نشاطات أخرى تحاول القيام بها تعود بك إلى الأشياء والسلع المادية، حيث ينبغي عليك شراء الفرح بقطع ثياب عصرية، وشراء الصداقة بدعوة غريب إلى مطعم فاخر.

أما المناسبات التي كانت في السابق تعني لكً الفرح والأهل والصداقة فتراها تحوّلت إلى زينة باهظة الثمن، وطعام، ولباس، وطقوس هي لا تعنيك أصلاً ولا ترتبط بك ولا بمعتقدك، لكنك مرغم على تنفيذها بحذافيرها لأنك لو تجاهلتها ستُتّهم بالرجعية وعدم مواكبة روح العصر.

في مدرسة أولادك يطلب منك المعلمون أشياءَ غريبة وحاجات كثيرة هم فعلياً لا يحتاجونها، فتتذكّرُ كيفَ كُنتَ في طفولتك تحافظ على علبة الألوان خاصتك، وتعتني بأقلامك ودفاترك المتواضعة كما لو أنها كنزاً لو فقدتها ستفقد عمرك، وكذا الأمر بالنسبة للألعاب والدمى المصنوعة من قطع الاسفنج الرديئة التي كانت تنبض بالروح لمجرّد أنك تحاكيها قبل النوم وتجعل منها خليلاً لك ولأحلامك.

تحاولُ أخيراً النظر في الأسباب التي حوّلت هذا العالم إلى كتلة من الأشياء لا المحسوسات، وحوّلت القضايا إلى مواد وسلع، والعلاقات العاطفية إلى مستحضرات تجميل، فتصطدم بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي أدت إلى تسليع وتعليب كل ما يخص الإنسان وإنسانيته، ولن يستطيع أيبشريأن ينجو منها فهي تطاول الجميع حتى مؤسسيها.

نظرة سريعة على واقع الأطفال في العالم كافية لإدراك خطورة هذه المادية التي تطارد الجميع، فأطفال تركيا يشابهون أطفال العرب، وكذلك الأمر بالنسبة لواقع الأطفال في الدول المتقدمة، حيث بات الهاتف الذكي/ التابلت لعبتهم الفُضلى والأولى، وأُتيحت الفرصة لمؤسسات بحثية خلّبيةبإيجاد مصادر دخل جديدة لها،عبر تقديمها دراسات حول أمراض العصر، واقع الأطفال، وأنماط التغذية والأزمات النفسية التي تدمر العالم بشكل بطيء.

إحدى أهم طروحات المؤرخ والكاتب اليهودي "يوفال نوح هراري"الذي يُعرف عنه ابتعاده المفرط عن العالم المادي والتكنولوجيا في كتابه (موجز تاريخ الغد)، الصادر عام 2015، أن العالم الذي استطاع خلال القرن الماضي تحقيق تقدم نوعي على مستوى الطب، العلوم والمعارف، يواجه في القرن الحالي معضلات لن يتمكن التقدم العلمي ولا الطفرة التكنولوجية منحلّها، وتؤدي بدورها إلى تدمير الإنسان، وسعيه للبحث عن بدائل ربما تكون أكثر تخريبية.ورد في مقدمة كتابه: "في الوقت الراهن يموت الكثير من الناس بسبب كثرة الأكل أكثر ممّا يموتون من قلته، يموت عدد أكبر من الناس بسبب الشيخوخة مقارنة بأمراض معدية، وعدد الناس الذين ينتحرون أكثر من الذين يُقتلون على أيدي الجنود والإرهابيين والمجرمين مجتمعين. من المرجّح أن يتعرّض المواطن الأمريكي العادي للموت بسبب أطعمة (ماكدونالدز) أكثر بألف مرة من احتمال تعرضه للموت عن طريق الضرب، أو من احتمال تفجيره من قبل تنظيم القاعدة".

 

 

آلاء عوض

 

 

Whatsapp