النقد بين مؤشرين


 

  

يستسهل بعض الناس الانسياق في تيار النقد المستمر بلا توقف بأساليب وغايات مختلفة وإن كانت (في الغالب) تفقد السيطرة لتَصُبّ في نفس المنحدر، وغاية ما نتلمسه يعبر عن حالة الفوضى الغائصة في الوحل بلا بوصلة.

النقد البنّاء الذي يبين الصحيح من السقيم، بشفافية مهنية دون تعصّب لرأي أو فئة، لا تجريح ولا تقريع وما كان بهدف التصويب والنصح ضمن المنهجية العلمية والتخصصية.

والناقد يخضع لشروط الأهلية النقدية من الدراية والفهم والتخصص والاطلاع والثقافة والأخلاق والإنصاف والحكمة.

أمام هذه المقدمة ولو عرضناها على واقع النقد نجد أن أدواته العلمية وضوابطه المنهجية تفلّتت بدعوى الحريّة والتعبير عن الرأي في فضاء مفتوح لكل من هبّ ودبّ من ناحية، ومن ناحية أخرى أخلاقية مرتبطة بالمرجعيات الدينية والقومية والحزبية والفكرية، والنقد هنا يتجاوز القول إلى القائل والفعل إلى الفاعل والتهليل أو التسفيه تبعاّ لخلفية الفاعل والمستهدف.

 وتقديم الدلالات والبراهين في بيان مناطق القوة ومناطق الضعف في المجتمعات السليمة والعادلة ستقابل بالقابلية والرضى، والإنحناء للعلم والعقل لتقديم الأفضل والأكثر صوابا، باعتبار النقد دافعاً نحو التغيير والتطوير والتقدم الاجتماعي، ومحركاً للوعي الإنساني، وبناء معارضة واعية في مواجهة الاستسلام للإستبداد أو الخضوع للفكر التسلطي، وهو من أهم عوامل تجديد الخطاب والحركة الإبداعية والفكرية والثقافية.

ليس الحديث هنا عن النقد بوصفه ظاهرة تاريخية مجتمعية ثقافية وتطور مفهومها وأبعادها، أو سردية مسارها التاريخي عند علماء الفلسفة وعلماء الاجتماع، إنما عن جوهر النقد في الحرية والمساحة التي تعطيها الحرية الحقيقية المنفتحة والمنضبطة في آن.

الحرية والنقد مرتبطان ارتباطاً وثيقًا، فلا يمكن تمكين النقد بدون حرية حقيقية آمنة بلا خوف أو ضغط أو قيود، في بيئة فكرية قادرة على حمل الحرية، وممارسة فعلية بضوابط أخلاقية قيَميّة متوافقة مع نشاط العقل الإنساني وثقافة المجتمع وقوانينه التي تضمن حقوق الجميع دون تجاوز.

ولا يمكن تهذيب الحرية ورفع قيمتها وقيمها بلا صعود نجم النقد الحضاري والبناء والملتزم بالأصول المنهجية، المدروسة والمتخصصة. 

في العودة على الطامات الكبرى في المفاهيم الخاطئة، والأفكارالمختلطة في بيئة مشوشة مخترقة لا تصلح أن تكون بيئة نقاهة وتعاف في ظل استمرار الحرب والحصار والتهجير والغربة، وفي ظل الحاجة والظروف القاسية التي تعانيها شعوب الثورات المخذولة في مواجهة الاستبداد وتحطيم القيود وإغلاق أبواب المعتقل الكبير من جهة. 

ومن جهة الاستسلام للعجز والتعامل مع حالة الفوضى على أنها حالة لا مناص في التعامل معها بالمواجهة والنقد بالمفهوم الذي نراه سائدًا اليوم بلا ضوابط علمية أو أخلاقية بقصد أو بغير قصد. ولا يحتاج الأمر لكثير متابعة فما نجده من التشهير والتخوين طال كل من وقف في وجه الاستبداد ووقف مع إرادة الشعوب في التحرر والتغيير، ولا شك أن لهذه الأنظمة أدواتها الخبيثة وارتباطات ومصالح تساندها محليًا ودوليًا وإمكانية اختراق الثورات والتلاعب بها بسهولة وهذا ما عزز هذه الفوضى وحتمية التشكيك والارتياب التي كانت العوامل الأهم في تفريق الصفوف وبروز الأجندات الحزبية القومية  والأيديولوجيات الدينية مقابل انحسار الفكر الثوري والوطني وتراجعه إلى الوراء ثم تخلي النخب والإحتماء وراء سورهم الأخير لحفظ ما بقى من ماء الوجه، في حين الفوضى متاحة بعد اقتصار العمل الثوري على تشويه ما تبقى من المعطوبين والمصطفين على قارعة الموت قصفًا أو بردا ًوجوعاً .

ومن يعمل لا بد أن يخطئ فلا عصمة لمفكر أو كاتب أو سياسي ومن يعمل بالشأن العام وهذا من البديهيات التي يعلمها الجميع، لكن لدى أكثرنا أيضًا مشكلة تطبيق ما نعلمه وما نعتبره من البديهيات ويرجع هذا لشيوع حالة الفوضى وانتشار التشويه وتأثير ذلك في إرساء القناعات المفتقدة للدليل في غالب الأحيان وإصدار الأحكام المسبقة بلا تأن أو توان.

المفاهيم الخاطئة لا تنتج حالة صحية بقدر نتاجها السلبي الخطير الذي يكبر ككرة الثلج بلا توقف، فالمطب العميق الذي وقعت فيه الثورة الشعبوية نستنتج معاينته من خلال قراءة تاريخ هذه الشعوب تحت عباءة الاستبداد لأكثر من نصف قرن، ومن الخطأ التعامل معها على أنها عاشت في بيئة صحية سليمة، وعلى العقلاء والنخب الوطنية المثقفة أن تبني لنفسها دوراً حضارياً، قادراً على استيعاب الزلزال الواقع، ومواجهة الارتدادات مهما كانت عنيفة، وأن يعترفوا بذلك ويقدروا الأمر مقداره، فلا رومانسية في مواجهة الأخطار والأمراض المجتمعية، ولا تساهل في التعاطي معها بموضوعية علمية ومنهجية يبدأ بالمكاشفة والندوات وفتح الطريق للنخب المدركة لخطورة نتائج الممارسات الخاطئة في التعامل مع الفضاء المفتوح وممارسة الحرية الواعية والنقد السويّ المثمر، ولا خيار آخر.

 

 

محمد الحموي كيلاني

كاتب وإعلامي سوري

 
Whatsapp