للمرة الأولى يخونني الحرف وأعجز عن ترجمة ألمي، للمرة الأولى أعترف بأنني غدرت بأحدهم ...!!، نعم غدرت بأحدهم، غدرت ببيتي حين تركته يواجه مصيره وحيداً، دون أن امد له يد المساعدة، دون أن أساعده على الهرب من بطش الإجرام كما فعلت بنفسي وعائلتي.
أعترف بأنني بكيت وطويلاً جداً، بعد أن استوعبت عيناي اللقطة الأولى له متداعياً على الأرض، نازفاً حتى الموت، ولم تفلح المنومات في انتزاعي من هذا الكابوس لأكثر من ساعة ونصف الساعة فقط، قد يلومني البعض مبرراً أنت وعائلتك بخير، أحمدي الله.
أولادي أيضاً يلومونني، نعم أنا أفعل وأحمد الله أننا بخير، لكنه هو، لم يكن بخير.
آلمني جداً درجة تساقط هذا الألم على شكل دموع ملتهبة لسعت وجهي وقلبي وذكرياتي، وثلاثين عاماً من الحلم والأمل والعمل والحزن والفرح، دفنت تحت الأنقاض، بيتي تلك الجدران التي تطل على شوارع ثلاث والرابعة أرض خلاء، ما جعلني أطمئن روحي دوماً أنهم لن يتمركزوا فيه، هم يحتاجون للأبنية المتلاصقة ليتنقلوا بينها بسهولة، هنا هم مكشوفون للطيران لن يطول بهم البقاء، هو الأمل، كنت أمني نفسي به.
ولم أدرك أنهم قرروا نهايته، لا تتعجبوا أنني أتحدث عنه ككائن حي، يشعر ويحس، بنظري هو هكذا، لطالما حمل ذهني عنه هذه الصورة، بين جدرانه ويدي ألفة شديدة وعلاقة تشبه علاقة الأم بابنها، وعلاقة الأب بإبنته، تحتفظ روحي بأصغر تفاصيله وجزئياته، اليوم وأنا أراه متهاوية جدرانه تحت تأثير بطش ضربات الظلم، يراودني الشعور بأنه تألم وحيداً، معزولاً عن غيره، أكاد أشعر بالذكريات وهي تستنجد بي، أنا المهزومة، الموشحة بالألم، اللاهثة خلف المدن البعيدة، المسافرة على متن خيباتي، الحالمة بصباحات دافئة مرت في ظله، كنت عاجزة عن نجدته.
اليوم صباحاً قلت لأصغر أولادي، رفيق رحلة المنفى والذي لامني يوماً أنني كنت في بداية كل صباح أهدم عش اليمامة من على الشرفة والذي وعدته أنني إن عدت يوماً سأبني لها عشاً جديداً بيديّ، أخبرته اليوم أن اليمامة أسعد حظاً مني، لأنها لم تملك ذكريات لها على تلك الشرفة، وأن أكبر كوابيسها كان الصياد، وأن بلاد الله الواسعة مبسوطة الأرجاء أمامها كي تبني عشاً جديداً لها، فلا أشقاء يرفضونها بينهم، ولا أصدقاء يستقبلونها بشروطهم.
اليوم أبحث عمن يضعني على أعتاب ركامه، أرغب أن أجمع ضحكات أولادي من هناك وهم يتجادلون ضاحكين يتقاسمون الشقق والأدوار، وصوت صغيري قبل أن يبلغ سن الدراسة وهو يصف لي القطط المولودة حديثاً في حديقة روضة الأطفال في قبوه، قطة سوداء وبيضاء وأخرى بيضاء وسوداء، وصوت ضحكتي يعلو لوصفه الطفولي، أرغب أن أؤدي آخر صلواتي، وأمسح آخر دمعة وأدفن آخر ضحكة لي معه هناك.
جنان الحسن
شاعرة وكاتبة سورية