ها أنت تنجو بأعجوبة من موتٍ محكم، مرة أخرى يحالفك حظٌّ خبّأته دعوات أمك لك، كان الموت قريباً لدرجة أنك شعرت بشرارة ساخنة لمست جلدة رأسك بينما كانت الرصاصة تمضي إلى أحدهم.
ها أنت تنجو من امرأة كريمة، لم تجهز عليك بل تركتك تمضي بخساراتك وهي تعرف أنه لا مكان سيأويك وأنت على هذه الحال، وأنه لا حياة ستقبل بك، امرأة كريمة أعطتك كل شاماتها في سهرة حب ثم غرزتهم واحدةً واحدة بمشرط ناعم في روحك.
كان من الممكن أن أموت كما مات صديقي قبل عشرين عاماً إثر حادث سير ولم تتوقف الحياة بعد موته بل استمرت، ولا أحد من سكان ذلك الحي يعرف الآن أنه على هذا الرصيف، وقبل عشرين عاماً، مات شاب وسيم يحب الحياة، مات بسبب تهور سيارة مسرعة.
لكنني لم أمت رغم أنني ومنذ سنوات أعيش مع الموتى، ومنذ هذا التحول في حياتي صرتُ كثير السؤال وقليل الكلام، كثير القلق وقليل النوم، صرت أشبه بجهاز الحاسوب يحتاج دائماً لإعادة تشغيل لأنه مصاب بعطب غريب جعله يخلط الخيال بالواقع.
أحياناً أستيقظ وكأن الذين ماتوا لم يموتوا، والذين رحلوا لم يرحلوا، وابتسم في الفراش للحظات، لكن سرعان ما تعمل كل البرامج في الدماغ فأدرك أنني لم أكن على ما يرام قبل قليل، ويقال إنك إذا فكرت كثيراً بشيء ما فستراه في الحلم، هذا غير صحيح فأنا أفكر بك كل ليلة ولم يحدث أن رأيتك في الحلم.
بدأت أشعر من الآن بأنني محظوظ فكان من المحتمل أن أبقى نائماً إذا حدث ورأيتك في الحلم، كنت سأظل مغمض العينين في فراشي، وكان الجيران سيقولون عني أنني ميت وهم يراقبونني من خلف النافذة، لكن أحدهم سيقول بأنني نائم وأتنفس.
النوم طريقة سعيدة للنسيان فأنت بعيد عن كل وسائل التواصل ولا تعطي أي اعتبار لأي شخص، والوقت يمضي دون قيمة فلا تعرف الليل من النهار، هل فكرت يوماً في حلمك بأن الوقت تأخر وعليك أن تمضي إلى البيت.
لم تعد هذه الأشياء مهمة فالمهم أن تجد حلا لحياتك لأنك نجوت، فلو أنك لم تنجو ما كنت ستفكر بهذا، ولكنت الآن سعيداً هناك ولا أحد يعرف عنك أي شيء سوى ذلك الباب الصغير الذي أودعوك فيه وغادرت.
إذا نجوت وأردت ان تبقى ناجياً فلتكن نظرتك لكل شيء جميل بأنه ليس لك، وأنه لن يدوم أمام عينيك، بل سيمضي حتماً ذات يوم ليراه غيرك، وتعامل مع كل الناس على أساس واحد بأنهم ماضون حسب جدول زمني لا تستطيع الاطلاع عليه.
وتعامل مع الحب على أساس أنه رحلة قصيرة لمنتزه جميل يطل على البحر وفي حديقته ينزل القمر كل مساء، استمتع بكل لحظة ولا تفكر بالغد والخوف من فقدانها، لا تفكر بتلك الأشياء، لا تعكر صفو السعادة، عش وكأن كنزاَ فتح أبوابه لك، بعثر الذهب في كل اتجاه حتى تهلكك السعادة لأنك ستعود من المنتزه قريباً إلى حياتك الشاقة.
عش الحب بهذه الفكرة بأنه شرارة نتجت عن اصطدام كوكبين مضى كل منهما في اتجاه، لكن أثر ذلك الاصطدام بقي في روحك إلى الأبد، وأنك احترقت يومها وأنت تضحك، احترقت من قلبك وأنت في ذروة سعادتك، واحترقت أصابعك وأنت تتحسس شامات جسدها، وتوزع مهام الأصابع لها، ها أنت تنجو من امرأة كريمة أعطتك قلبها في لحظة الاصطدام ومضت.
ها انت الآن وحدك تعود لظلك الذي اشتقت له لتضيف عليه ظلال السكاكين.
كنت جميلاً أيها الحب كفلم رائع عشنا فيه خارج الزمن، وأنجبنا أطفالاً وكبروا، وحلمنا بالمستحيل، وواجهنا المصاعب ثم غادرنا بهدوء الذين يغادرون صالات السينما، كل هذا حدث في ساعتين ونحن نتابع فلم حياتنا أنا وأنت.
محمد سليمان زادة
كاتب وشاعر سوري