لعل أخطر ما في الاعتياد هو التسليم بأن هذه الوضعية غير قابلة للتغيير، ولا أمل من محاولة التفكير في تغييرها؛ وانصياع السوريين للاحتلال، كلٌّ في موقعه الذي يفرض عليه قوة خارجية ما، أمرٌ قد يثير الاستغراب، وما يُفهم معطوفاً على عقود من الانصياع للاستبداد الأسدي، ثم الفشل في إسقاطه.. لعل المقاربة التي نفتقد الاتفاق عليها هي أن الاستبداد، كسلطة إكراه لإرادات الشعب، هو بمثابة احتلال داخلي لا يستجلب نظيره الخارجي بفعل ضعفه فحسب، وإنما يستدعيه أيضاً بفعل القرابة اللصيقة بينهما.
لقد نزل خبر هــلاك وتفتيت ’’قاسم سليماني‘‘ مع شريكه بالإجرام ’’أبو مهدي‘‘ بداية هذا العام كوقع الصاعقة، على محور الجريمة والممانعة الأسد إيراني وذيــوله ، ذلك لأهمية وحجم الدور السياسي والعسكري الإجرامي الذي كان يتولاه ضد شعوبنـــا الثائـــرة وأمتنـا العربية جمعاء فقد كانت المفاجئة لهم صاخبة بشكل هستيري وبتفاوت كلّي وكامل بجميع الجهات التي كان يوجهها هذا المجرم؛ ومع إقرار ’’قانون قيصر‘‘، فلا يوّاجَه النظام الأسدي بضغطٍ حقيقي يُذكَر لإنهاء الفظائع التي يعاقبه عليها الكونغرس، فهو مازال ينـــال غطاءً جوياً من القوات الروسية التي ما قصفت إلا أهدافـاً مدنية وعن عمد ومازالت، ومن قوات ما يسمى «الحرس الثوري الإيراني» وميليشياته الشيعية وغير الشيعية الأجنبية التي تستمر في تطهير ما تبقى من المعارضة المحلية على الأرض السورية؛ هذا ولم تعد الولايات المتحدة تشكل تهديداً لتنظيم الأسد الإجرامي بسبب الطبيعة المحدودة لمشاركة واشنطن الحالية في سورية وترجيح أن تتحول ’’المنطقة الآمنة‘‘ إلى منطقة خطرة.
إن ’’قانون قيصر‘‘ لن يضع حداً للكارثة السورية ما دامت واشنطن لا تنتهج أي سياسة جادة وحقيقية لصالح السوريين، فلأجل إرغام نظام القتل الأسدي على وقف هجماته الفتاكة على الشعب السوري، لا يستطيع البيت الأبيض أن يتنازل عن نفوذه السياسي والعسكري لصالح خصوم الولايات المتحدة في سوريا، علماً أن بشار أسد ونظامه هو السبب وراء تنامي المتطرفين من «الميلشيات الطائفية» كلها شيعية وغير شيعية مع تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، وطالما أنّه في السلطة فإن رغبة واشنطن في إنهاء الحروب التي لا نهاية لها لن تنتهي أبداً في سوريا.
عند انطلاق الثورة السورية، كانت حجة العديد من الأفراد والأحزاب والمنظمات والدول في عدم دعم الثورة أو التشكيك بها أو حتى في الوقوف ضدها، هي انعدام وجود البديل الواضح لرأس الدولة ونظامه، وعلى الرغم من الصحّة الشكلية لذلك الادعاء، إلا أن المطالبة ببديل سياسي مؤسساتي في ظل انعدام الحياة السياسية والعمل السياسي في سورية، كانت مطالبة كاملة بالمستحيل، فكيف لبلدٍ لا يوجد فيها منافسة ديمقراطية على السلطة ولا أحزاب معارضة علنية ولا برلمان فاعل ولا قضاء مستقل ولا انتخابات نزيهة أن يتشكل فيها بديل سياسي! وكيف لأي بديل سياسي أن يتشكل في ظلِ حكمٍ أعلن دائماً وبشكل صريح "أنا أو الفوضى" ثم أعلن ونفّــذ على نحو أكثر صراحة برنامج "الأسد أو نحرق البلد"؟؟
مشكلة البديل لم تنتــه هناك، بل تصـاعدت وتعقـدت مع تصـاعد العنف والقتـل، ثم الحـرب والتشريـد، ثم التهجيــر والإبادة، ثم الاحتــلال متعدد الوجـوه، هذا من جهة النظام المجــرم؛
أما من جهة الثورة، فإن إمكانية البديل السياسي التي وعدت بها، وحملتها في أحشائها الثورة السلميّة، بدأت بالتلاشي مع التسلح المنقوص بالفيتو الأميركي ضد تسليح المعارضة بمضاد الطيران، ثم باتت مستحيلة القبول محلياً ودولياً بعد الأسلمة ثم التطرف وظهور الخلفاء وأمراء الحرب الإسلاميين الاستخباراتيين، فمع كل يوم يمضي كانت الثورة تفقد نُخبها قتلاً أو سجناً أو تشريداً، تفقد تماسكها وتتحول إلى فوضى بلا أفق، ومع كل سنة تمضي كانت سورية تتحول إلى بلد من حطام وخراب ودماء، وصولاً إلى المجزرة المعلنة والمستمرة في إدلب اليوم؛ كل ذلك يضع أمام شعبنا السوري بكل طلائعه «السياسية والثقافية والعسكرية» مسؤولية البحث الجاد عن البديل لقيادة حقيقية للطــور والمسار الثوري التحرري المأزوم.
إن مشكلة البديل، لم تعد اليوم مشكلة سوريّة فحسب، بل أصبحت مشكلة عالمية، يقود إليها ويعبّر عنها صعود الشعبوية الذي نراه يتمدد من مشارق الأرض إلى مغاربها، فصعود الشعبوية يعني ببساطة صعود التسلّطية في كل مكان، ويعني أيضاً صعود الرُعاع إلى الحكم في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية أيضاً.
إنه اضطراب النظام الدولي الحالي المترافق مع أزمات الهوية والسيادة الوطنية والمهاجرين والإرهاب، المتداخل مع الحروب التجارية والأزمات الاقتصادية والثورات السياسية وانعدام الاستقرار والأمان. كل ذلك يمثل شروطاً مثالية لصعود الشعبوية، وصعود التسلّطيّة المصاحبة لها، لكن الجانب المظلم في الشعبوية هو أنها تقود السياسة نحو انعدام البديل، تَحّـرم البـدائــل العقلانية من أدواتها ومن قوتها، ويصبح الخطاب السياسي العقلاني نوع من الضعف بل حتى السخافة، فما تحاكيه الشعبوية لدى الناس هو الغرائز والمخاوف والرغبات، تلك التي تزدهر في الأزمات والمراحل الانتقالية كالتي يعيشها العالم اليوم، وما تعد به الشعبوية لا علاقة له بالبرامج العقلانية بل بوهم القوة والسيطرة والمجد التي يحتاج الناس لسماعها. ولنا في الخطاب السائد في بريطانيا وأميركا خيرُ مثال.
الطريق الطبيعي الناتج عن إعــدام البدائل في سورية، هو أن تصبح سورية ولاّدة للحروب، فالحرب السورية؛ التي ستصبح خلال سنة من الآن بطول الحربين العالميتين الأولى والثانية معاً، لن تنتهي قبل خلق البديل القادر على حمل راية الثورة بكل نزاهة وشرف وإخلاص، لكن البديل ذاته لا يبدو ممكناً دون تضافر جهودنا "ومن جميع مكوناتنا" نحن السوريين باجتراحه مهما بدا مستحيلاً.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري