فردية السوريين المكتسبة


 

 

في السوريين فضائل ومآثر، وسمات وخصائص قطرت بها ألسنة كثير من المثقفين والمفكرين، من العرب وغيرهم، ثناءً ومدحًا. ودل على ذلك تتابع الأحداث، وتعاقب الدهور. ومن مظاهر "الكمال" الإنساني في الشعوب، أن يبقى السوريون واقفين على أقدامهم بعد تسعة أعوام من محاولات إفنائهم ومحوهم تمامًا، ليس هناك منطق يدحض غلبة الظن على وجود تواطؤ دولي، بشكل مباشر مرة، أو بسياسة غض الطرف مرة أخرى، وراء هذه المحاولات.

يحوي السوريون من عوامل الصمود والعناد في تحقيق مبتغاهم، ما يبعث في نظام الأسد الجنون في صورة نبش القبور وتدنيسها، كما فعلت ميلشياته بقبر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وفي قبور الثوار، وهي رعونة وراءها عدم لمس النظام أي إشارة على وهن السوريين في قتاله، وإصرارهم على مواجهته حتى إسقاطه.

وليست البطولة في مواجهة نظام الأسد بعد تسع سنين من القتل ومحاولات الإفناء الممنهج لشعب بأكمله، وإنما سباحة هذه المقاومة العنيفة عكس التيار الدولي الذي يميل إلى الأسد، بفعل المصلحة لا العاطفة.

لكن نظرة فاحصة لهذه الصورة الناصعة، تكشف تفاصيل معتمة جلّاها البطل السوري المقدام أحمد الحصري، الذي قدم مثالاً حيًّا، مزدوجًا، عن طبيعة السوريين الأصيلة، ممثلة بالشجاعة والثبات والعناد في الحق، وعن طبائعهم المكتسبة، وفي مقدمها: الفردية والعشوائية.

قيل الكثير عن بطولة أحمد الحصري الذي قاوم جيشاً من المليشيات التي تقطر أنيابها كراهية ورغبة في الانتقام، وقيل الكثير عن تأخيره هذه المليشيات ساعات عن دخول مدينته معرة النعمان، وهو جدير بكل ثناء قيل في حقه، وبكل مديح ألصق به، كيف لا وقد صار حجة على الثورة والثوار، وعلى كل من يشتكي من قلة الأصدقاء، لكن في ما وراء صموده وبطولته حكاية شعب فردي تتبدد طاقاته النفسية والجسدية والذهنية المتقدة في فرديته وعشوائيته، من دون عائد فائدة عملية للثورة.

يجب علينا الانطلاق من نجاح الحصري بمفرده في تأخير دخول المئات من مقاتلي المليشيات المدججين بسلاح حديث، وكثافة نارية، ساعات إلى مدينته، لنسأل عن المسار الذي كان يمكن أن تسلكه معركة معرة النعمان، وغيرها من المعارك، لو وقف في موقف أحمد الحصري بضع عشرات من أهل المدينة، وقاتلوا بأسلوب حرب العصابات، على طريقة الكر والفر؟! وعلينا أن نسأل، في ظل وفرة الشجعان، وكثرة الصادقين، ووجود الباذلين، لِمَ لمْ يرتب للأمر، ويجمع بضعاً من أبناء بلدته، فيضعون خطة مواجهة مباشرة تقوم على الالتحام مع العدو بما يضمن تحييد الطائرات، والخضوع لمنطق حرب الشوارع، والاختباء والكمائن؟!

كان بإمكان الحصري، وهو الذي يتابع سقوط المدن والقرى والمواقع، منذ بضعة شهور، أن يفكر ملياً بالمصير الذي ينتظر مدينته، وأن يخطط ويجهز لجمع مقاتلين، لا يقلون عنه ارتباطاً بالأرض، وإخلاصًا لفكرة الثورة، يخوضون حرب استنزاف تحت الخنادق وبين الأنفاق، مستفيدين من الأبنية المدمرة التي توفر لهم شبكة عظيمة للمناورة والاختباء.

ربما ليس ذنب الحصري أنه تصرف بشكل فردي، وهو ابن بيئة باتت أسيرة الفردية والعشوائية أبرز سماتها، قدم لنا العدد القياسي من الفصائل المتناحرة، والجمعيات الخيرية الكثيرة المتنافسة في غير الهدف الذي أنشئت من أجله، والهيئات والروابط العلمية الشرعية المتنافرة، والأحزاب والجماعات السياسية المتدابرة، أمثلة صارخة على هاتين السمتين اللتين ابتلعتا الشعب السوري.

الفردية المكتسبة عند السوريين، تشكلت في السنوات الأوَل التي أعقبت خروج المحتل الفرنسي، غير أنها تصلبت في عروق السوريين في العقود التي حكم فيها آل الأسد تحت غطاء حزب البعث، الذين قتلوا الروح التكافلية التي عرف بها السوريون تاريخياً، وعبثوا عبر السيطرة على منابع التعليم والإعلام والخطاب الديني، بمورثات السوريين، ملغين شخصيتهم الجماعية، ومحلّين الشكوك وسوء الظن فيما بينهم.

هذه الفردية التي أنتجت مناخاً عشوائياً في حقل العمل العام، عطلت مسار ثورة مركزية في المنطقة، وفتحت في جسدها ثغرات تغلغلت منها رياح المصالح الدولية، حتى باتت الثورة نقطة جذب لتصفية الحسابات، وتحقيق المكاسب بثمن مدفوع من دماء السوريين، ومن وعيهم، وكرامتهم التي ما ثاروا أصلاً إلا لأجلها.

يحصل كل ذلك من دون وجود مؤشرات، حتى الآن على الأقل، على أن هناك من يستفيد من الأخطاء، ويذاكر الدرس، ويستلهم العبرة، بل إننا نشاهد تفشياً متواصلاً للفردية: أفقيًا وعمودياً.

وليس في هذا الكلام نظرة سوداوية، ولا تشاؤمًا، وإنما قراءة في واقع يحتاج إلى رؤية نقدية موضوعية لا تسقط من حساباتها اعتبارات الدورة الزمانية اللازمة لتجاوز آفتي الفردية والعشوائية اللتين يتسم بهما أداء الإنسان السوري في هذه المرحلة الزمانية، وهي دورة يتوقف طولها أو قصرها على توافر بنية فكرية تؤسس لوعي جديد، ونفوسٍ مُصلحة يتركز مدار عملها على الإنسان قبل العمران.

 

 

جهاد عدلة

كاتب وإعلامي سوري

 
Whatsapp