"إدلب" هي العنوان الأبرز لما يسمى مناطق خفض تصعيد اتفق عليها بين دولٍ قالت بأنها ضامنة في أستانا، وقد وضعت البنود المتعلقة بها قيد التنفيذ النهائي بعد حرق ومقتل " قاسم سليماني" الذي حدّ وشلّ الدور الإرهابي الايراني، وقد استغل المُجرم " بوتين" الحدث بزيارة دمشق ثم أنقرة لاستكمال أجندته مع تركيا بالسيطرة سياسياً بالتزامن مع أحداث ليبيا لدفن سوتشي وأستانا وتوابعهما. وما كان هذا ليحدث دون التوافق الروسي والأميركي وهما اللتان تستثمران، وتحولان دون أي رد فعل تركي للقيام بعمل أحادي مفاجئ قد يُعيد الاعتبار لوعود قطعتها وضمانات وقعت عليها.
من الملاحظ أن أميركا تمتلك قرار الفصل بالوضع السوري بفضل تفوقها العسكري والاقتصادي مع حلفائها، وذلك بالضغط على جميع الأطراف بما فيه روسيا بموجب قانون " قيصر" لتحديد ملامح الحل النهائي وطبيعة وشكل سورية الجديدة ما بعد الثورة.
وإن كان لا مستحيل في السياسة، كرمالٍ متحركة وفق الظروف والعوامل المتوفرة في كل لحظة، فيُحتمل أن تتمخض العمليات والجرائم الروسية الأسدية العدوانية العسكرية على شعبنا السوري في "إدلب" والشمال المحرر لتغييرٍ في الأولويات أمريكياً، ولكن بحسب بنود الاتفاقيات الثنائية مع كل من روسيا وتركيا سابقاً ولاحقاً، وبسبب تواجدهما العسكري المكثف والنشط في مناطق شمال وشرق سورية، مما يؤدي لحالة من الاضطراب وعدم الاستقرار في الجوار الاقليمي لسورية (لبنان، فلسطين، العراق)، إضافة إلى النزاع الدولي على غاز شرق المتوسط الذي سيغير الخارطتين الاقتصادية والسياسية في المنطقة والعالم.
سخرية قدر السوريين فرضت عليهم معايشة أسوأ انهيار اقتصادي شهدته دولةٌ مشرقية منذ بدايات القرن العشرين، وتجاوز في حجم كارثيّته ما شهده العراق الذي ما برح يخرج من حرب السنوات الثماني مع إيران في القرن الماضي، بتحريض عربي ودولي ليدخل في أزمات التفكّك الاجتماعي والتدهور الاقتصادي تحت تأثير التدخّل الخارجي وإبراز القذارة المتراكمة داخلياً إلى السطح بالشكل الذي أدى لاستحالة التعايش لقرونٍ قادمة؛ فالانهيار سورياً أشدّ وطأةً من ذلك الذي يعيشه العراق، ولا شك أن انعكاسات ذلك على الاقتصاد يحمل بكل قوةٍ دلالات انهيار المنظومة الاقتصادية التي ترسّخت قواعدها على امتداد الجغرافيا السورية، وإن كانت تلك المنظومة لا تملك من مقوّمات القوة سوى عامل الحماية الأمنية لها، وهو العامل الأقوى لبقائها على مدى خمسة عقود، انطلاقاً من ذلك فالانهيار الاقتصادي السوري ليس وليد لحظة الحراك الثوري منذ 15 آذار/مارس 2011 أبداً، بل هو انهيار من أمرين؛ إذ أنه من جهة نابعٌ من فلسفة اقتصادية سفسطائية سادت لنصف قرن، ولا تُفهم حيثيّاته النظرية والتطبيقية إلا من منظور بناء مصالح فئات مؤطّرة وانتهازية محدّدة، سِمَتها الواضحة الولاء المطلق للسلطة السياسية الفاشية، دخلت ساحة الاقتصاد من بوّابة الولاء، لا من بوّابة الانتماء إلى دائرة الإنتاج والخدمات التي كانت تتمايز في سورية الخمسينيات عن دائرة السياسيين، ولم تمضِ سنوات سطوة الفلسفة الغوغائية دون اختناقاتٍ كادت تودي بالنظام لهاوية السقوط في مراحل مبكّرة نسبياً من عمره، إلا أنه كان يشهد انسلاخات شكلية من السياسات الاقتصادية المعروفة بغربتها عن الواقع.
من جهةٍ أخرى نجم الانهيار عن منهجية واضحة لتدمير البنى التحتية من طرف نظام مستبد وطائفي بمواجهة شعب طالب بالحرية، وأن العدوّ الأول له لم يكن سوى سورية الشعب والبلد والصناعة والزراعة والنمو، لأن حجم الدمار لا يمكن أن يُفسّر إلا عندما نضع في حساباتنا نواتج سقوط البراميل من طرف وتفكيك المصانع أو حرقها من طرفٍ آخر تم استنباته من نظام الجريمة والفساد الأسدي، طبعاً هذا لا ينفي مطلقاً وجود منتمين لسورية الوطن والتي يُراد لها البناء والتنمية في هوامش مراكز القرار.
النتيجة الطبيعية للسياسات الاقتصادية الخرقاء في مرحلة ما قبل الثورة إلى جانب انهيار المنظومة الأخلاقية بعدها، هي خلقُ حالةٍ مأساوية، توسّعت دائرتها لتشمل الأداء التنموي اقتصادياً وبشرياً، من خلال تدميرهما بصورةٍ مُمنهجة ومباشرة، ليتدهور الوضع إلى الدرك الأسفل ببلوغ الخسائر أرقاماً فلكية، ينتهي معها كل أملٍ ببناء سورية الوطن في الأمد المنظور، إذ تدلل بعض الإشارات إلى حاجة الاقتصاد السوري لتريليون دولار للعودة إلى الوضع الذي كان يسود قبل الثورة مباشرةً، كيف لا؟ وشهد البلد دماراً شاملاً أدّى إلى ارتهان سورية الدولة والسيادة إلى قوى مُحتلة خارجية وميليشيات تقاسمت النفوذ في الجغرافيا والثروات والقرارات، وشرذمت القوى البشرية عبر خلق ولاءات جديدة لقوى لا تعرف من سورية سوى الموقع والثروات لأهمّيتهما الاستراتيجية في حساباتهم.
تعدّدت مظاهر الانهيار وتوسّعت رقعتها في ظل مفردات جديدة، ولعل صفوة تلك المفردات تكمن في توسّع النفوذ الإيراني، نفوذٌ أداته السطوة المالية، والقوة العسكرية المتعدّدة الجنسيات والمستقدَمة في هيئة قوات إنقاذ لئيم لقيم (حسين وزينب)، والتي لا تمتّ بأي صلة إلى مؤشّرات التنمية الاقتصادية والبشرية وأهمّيتها للخلاص من المستنقع الدموي الذي أغرق الحياة في وحل الطائفية الذي يتحدّد في عموم الجغرافيا السورية، وجوهر وجوده هو الحفاظ على الهياكل لتستظلّ بها في طريقها الممتدّ من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، وإن كان ذلك من عوامل ترسيخ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، فالتنمية المطلوبة إيرانياً هي تنمية الهجرة الخارجية والتغيير الديموغرافي لمصلحة القوى المستوطنة في أطراف دمشق لرسم ملامح سياسة اقتصادية واجتماعية جديدة لسورية، تكون فيها السيطرة الاقتصادية لإيران وأعوانها.
فإذا كان الإدراك الإيراني متولّداً من زاوية حمايتها لنظام الطغمة السياسي إلى جانب الانهيار الاقتصادي، فإن الدور الروسي والأميركي يتميّز بشمولية أكبر، ولا يتوقّف عند الحدود المرسومة إيرانياً، وقد بدأت كلتا الدولتين برسم خارطة نفوذهما في سورية عبر تقسيمها لمناطق نفوذ تحدّد من خلالها استراتيجيتيهما المستقبليّتين في المنطقة عموماً، استعداداً للانطلاق نحو مرحلة تسود فيها توازنات جديدة، وتُرسم فيها خرائط تخدم تلك التوازنات.
بينما تحقيق الاستقرار مرتبط بتحقيق التوازن في المصالح الدولية على امتداد خارطة المنطقة والتخلص من نظام الجريمة والطغيان الأسدي، مما يوحي بأن عملية الاستقرار الاقتصادي لن يجد طريقه إلى التطبيق في الأمد القريب، إذ إن الثورة والحدث السوري يشكّل العاصفة التغييرية التي تهبّ رياحها باتجاه خرائط سياسية أخرى في المنطقة، وتستهدف تغييرها تحقيقاً للمصالح الدولية التي تعاني الركود تحت ظروف تطبيق نظم سياسية واقتصادية باتت عبئاً على القوى الممثّلة لها.
عبد الباسط حمودة
كاتب سوري