هل من سوتشي جديدة؟


 

 

لم تكن العلاقة التي جمعت بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والروسي بوتين، سهلة على الإطلاق، والعنصر الأساسي الذي يشكل عامل الشد والجذب فيها هو سورية. بالنسبة لبوتين يعتبر التدخل في سورية شأنًا روسيًا استراتيجيًا لا يقبل فيه الخسارة أو التراجع، بينما تحكم علاقة أردوغان بالشأن السوري جملة معادلات معقدة، منها وجود ما يفوق ثلاثة ملايين ونصف مهجر سوري، يحتمل أن يضاف مثلهم من محافظة إدلب في حال استمرار الضغط العسكري الروسي مع عصابات الأسد. 

يعود إنشغال القيادة التركية بالتصعيد العسكري الروسي- الأسدي الأخير إلى الخوف من تدفق اللاجئين السوريين من إدلب لأراضيها، وليس أدل على ذلك، من أن أنقرة لم تعترض على سقوط ثلاث مناطق خفض تصعيد في دمشق ودرعا وحمص، والتي تعتبر أكثر أهمية استراتيجية من إدلب، بينما علت النبرة التركية حالياً بعد الهجوم على إدلب.

وبدت آمال الكثير من الناشطين والمعارضين السوريين معلقة على «الضامن التركي» في وقف الحملة الأخيرة، والحيلولة دون سقوط المزيد من المدن بدءاً من خان شيخون، ويتم تضخيم فكرة الـ(قشة) التركية المنجية من غرق المزيد من مناطق المعارضة، في ظاهرة تبدو أقرب للإدمان على التعلق بمنقذ، وإن أشارت كل التجارب الماضية والحاضرة، لعدم نجاعة هذه المقاربة، التي تصر على أن تركيا «لن تسمح بسيطرة النظام على إدلب». 

فمن يعول على دور تركي في سورية، عليه أن لا يبالغ في الإمكانيات التركية بالسياسة الخارجية في المشرق العربي، فبنية النظام السياسي التركي، وطبيعة تحالفاته، لا تؤهله للعب دور كبير، كما يجب أن لا ننسى قدرة تركيا على العمل خارج تفاهماتها مع روسيا تبدو محدودة للغاية.

والفصائل السورية الحليفة لأنقرة ليس لديها إمكانيات قتالية عالية، ولا انضباط إداري يمكنها من تحقيق إنجاز عسكري، بدون وجود الجيش التركي لجانبها، وسلوك هذه الفصائل، وتجاوزاتها من سرقات وانتهاكات في المناطق التي تسيطر عليها في درع الفرات وغصن الزيتون، وأخيراً في منطقة نبع السلام، يشي بأنها غير مؤهلة لامتلاك زمام أمورها، بدون وجود الجيش التركي.

من هنا بات السوريون الذين اتخذوا من تركيا حليفاً أمام وضع حرج جداً، وهم لا يجدون أي تبريرٍ يقدّمونه لآلاف من المهجّرين قسرياً من بيوتهم التي يدمرها الروس تحت بصر القوات التركية الموجودة في نقاط المراقبة. وتكمن العقدة هنا في أن عدة ملايين تعوّل على تركيا، وتراهن عليها في وقف عمليات التهجير والتدمير المنهجي للعمران والبنى التحتية، ولكن تركيا تقف اليوم عاجزةً عن ردع روسيا أو مساعدة الفصائل من أجل وقف العدوان الروسي. وفي كل يوم يمر، يزداد هذا الملف سخونةً، ويكبر السؤال، ولا أحد يمتلك الإجابة. بل أكثر من ذلك، هناك قلق فعلي من دخول النظام مدينة إدلب، ومن بعد ذلك مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون".

المشكلة أن تركيا دولة بقيت دون خيارات، ولن تسمح لنفسها بأن تضر بعلاقتها مع روسيا، حليفتها القوية الوحيدة التي بقيت لها بعد أن شرخت علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتدرك أيضاً بأن عملية عسكرية ضد القوات السورية يمكن أن تضعها على مسار تصادم عنيف مع الكرملين. حيث أنّ الوضع في المنطقة وصل إلى مرحلة عقيمة بين الطرفين الروسي والتركي، خصوصاً في ظلّ موقف أميركي غير محسوم إلى الآن. ومع أن الجانبين لم يعلنا بعد بشكل رسمي انهيار اتفاق سوتشي، إلا أنّ التطورات على الأرض تجاوزته، بحيث بات بحكم الملغى. وعليه يُمكن الاعتقاد بأن هجوم الجيش الوطني السوري على جبهات بريف حلب يهدف إلى إعادة صياغة إطار جديد لنظام وقف إطلاق النار على الأرض من خلال رسم خطوط تماس جديدة، على أمل أن يساهم ذلك في إعادة الاعتبار لموقف المعارضة السورية، التي تراجعت شعبيتها كثيراً خلال المعارك الأخيرة في ريف إدلب حيث تبين أن المقاومة الحالية معظم أفرادها من العناصر السابقين في "الجيش السوري الحر" من أهالي المنطقة وكانوا قد تركوا السلاح والقتال بفعل ملاحقتهم من قبل "هيئة تحرير الشام"، وهم من الذين يرفضون الخروج ويريدون المقاومة حتى النفس الأخير، في ظل غياب السلاح النوعي والسلاح الثقيل مما اضطرهم إلى إتباع المقاومة التي تبطأ التقدم لا أكثر.

من جانب آخر، فإن "تحرير الشام" التي لم تشارك بقوتها في صد هجمات النظام في أرياف إدلب الشرقية، تحاول إخلاء مسؤوليتها عن الخسائر العسكرية على الأرض، من خلال هجوم خاطف في أطراف مدينة حلب لرفع رصيدها على المستوى الشعبي المعارض، المتعطش لأخبار الانتصارات، وسط كل هذا التراجع، وفي محاولة يائسة ومتأخرة للتشويش عن وضوح دورها (هي وداعميها) في تشويه ثورة السوريين وإضعافها، وتقوية حضور الجماعات المتطرفة، الأمر الذي أفضى إلى تحجيم الهوية الوطنية السورية، وإشاعة المزايدات الإسلاموية حول مفاهيم «الإمارة» و«البيعة» و«المحاكم والهيئات الشرعية».

كيف ستكون النتيجة النهائية للاتفاقات الروسية التركية بشأن إدلب؟ من الواضح أن الإجابة تكمن في قناعة روسية بأن الأتراك غير قادرين، وبني هذا التقدير بسبب التراخي التركي في الرد على الخروق الروسية وانتهت بالسيطرة على ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي. ويبدو أن الروس تعبوا من إطالة مدة النزاع العسكري مع غياب أي استثمار سياسي-اقتصادي. ولذلك، يعملون على إنهاء المعارك الجانبية، ومنها إدلب، للتفرغ للشرق والمسألة الكردية، فموسكو تريد حصر دور أنقرة في هواجسها الكردية فقط.

 

 

د_ محمد مروان الخطيب

كاتب وباحث سوري

 
Whatsapp