حين تغدو الحياة انتظاراً لموت


 

 

 

سأعيش عمري أنتظر خبر موتك.

عبارة ما تزال طازجة تستقرّ باطمئنان في ذاكرتي، قرأتها أو سمعتها، ولربّما قلتها ذات غضب في مكانٍ ما قبل عقود ثلاثة من الزمن. 

أيّة حياة يمكن أن يعيشها إنسان انتظاراً لموت أحدٍ ما كي يستعيد ما فقد من حياة، بل أيّ جحيم سيتقلّب بين لهبه مترقّباً خبراً يزفّه له الموت..؟؟. يا لكمّ القهر الإنساني ويا لمدى الألم والعجز واليأس حين تتحوّل الحياة إلى بندول يقرع جمجمة الرأس، ويغدو الوقت سجناً يتحكّم في أبوابه سجّان الموت.  

أيّ عدمٍ سنقضي في كهوفه الموحشة ونحن نترقّب من يتربّص بأنفاسنا المنهكة الخافتة، ويشهر أسلحته الفتاكة ليطفئ ذبالة الضوء الأخيرة وقد تجسّدت وهماً ما زلنا نخبزه على نار الأمل. سيكون علينا أن نستعيد ما لن يعود وأن نستردّ سعادة غادرت، ونعيد رسم حياة لن يكون لدينا متسع لعيشها. 

يحدث أن يشتدّ بالإنسان الألم ويستفحل به الداء وينشب أنيابه ومخالبه في جسده الموهن، فيتضرّع إلى الله أن يمنّ عليه بالموت ليكون مخلّصاً له ومنقذاً لمن حوله، فلم تعد به وبهم طاقة للاحتمال، وقد أوصدت في وجوههم أبواب الأمل وأغلقت حولهم دائرة القنوط. لعلّ انتظار المريض اليائس وتمنّيه للموت يمكن تفهمه بالرغم من قسوة المشهد ومرارته، وهو حالة فرديّة تتكرّر في المجتمعات الإنسانية قد تحدو بالبعض إلى حدّ المطالبة حال استحالة الشفاء بالموت الرحيم وهو أمر لا شكّ مرفوض أخلاقياً ودينياً.

حين يكون شعب كامل بكلّ أطيافه مهدّداً بالفناء بسبب سرطان خبيث هو الاستبداد والطغيان، معروف المنشأ والمصدر، يفتك بأوصاله ويدمّر خلاياه، وكذلك فإنّ الطريق إلى شفائه واضح وميسّر ولا يحتاج سوى إلى إرادة الطبيب الإنسان، ويمتنع هذا الطبيب عن إجراء عمل جراحيّ بسيط ليعود هذا الجسد قويّاً معافى ممتلئاً بالحياة، ينشد السلام والحبّ للعالم والإنسانيّة، فإنّ تمسّك هذا الشعب بالحياة وتمنّيه لموت من يقف أمام تحقيق آماله بالعدالة والحرية والكرامة أمر يبدو منطقيّاً ومقبولاً، بل هو الممكن الوحيد في ظلّ هذا التعاجز والامتناع عن تقديم ما يلزمه من علاج ودواء.

إن تجاهل منظمات المجتمع الدولي لمأساة سوريا ودعمها السريّ والعلني لنظام الطغيان الأسديّ، وإنكارها لحقّ السوريين بالعدالة والحرية والكرامة التي تقرّها المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، والتي هي تجسيد للقيم والمبادئ الإنسانية، تماما كامتناع الطبيب عن البرّ بقسمه والقيام بواجبه باستئصال الورم الخبيث وتجريف متعلقاته، بل والإمعان بمدّ المرض بأسباب تجذّره وانتشاره، وهو جريمة كبرى ومساهمة في قتل المريض. إنّه مشاركة حقيقية في إبادة الشعب السوريّ المريض بسرطان الطغيان والاستبداد تدفع بالعديد من أبنائه، رغبة بالخلاص، إلى سلوك طريق قد تشبه الموت الرحيم. 

في ظلّ القتل والتدمير والتهجير والتنكيل المستمرّ منذ سنوات، وأمام هذا التعاجز والتخاذل والصمم الأمميّ تجاه عذابات السوريين، أصبحت حياة السوري اليائس من يقظة الضمير الإنسانيّ والعاجز عن مواجهة آلة القتل الجهنمية مجرّد انتظار موجع لموت الطغاة ومن يقف معهم، نعم لقد أصبح موت الأشرار حلماً لكلّ باحث عن الأمن والسلام والحرية.

سأعيش عمري أنتظر خبر موتك.

حقّاً لا أذكر قائل هذه العبارة، متى، وأين، وفي أيّ سياق:

ربّما هو شاعر نرجسيٌّ قالها ساعة نزق..؟

وربما تكون عجوزاً تتشح بالأسود وقد رفعت يديها إلى السماء؟

ولعلّه طفلٌ صرخ بها وهو يتوكأ على عكازين وأمل..؟؟

 

علي محمد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 
Whatsapp