كانت تعد طعام الغداء. قشرت البندورة، وذرفت دمعاً أكثر مما يسببه فرم البصل عادة حين سمعت عويل أم جورج جارتها في المنزل المقابل.
لم تسمعه بأذنيها فقط بل تردد الصدى داخل أحشائها. وحش عض قلبها. ارتعشت أطرافها. دارت الأرض بها، ودار معها القلق والرعب والكلمات التي تخشى نطقها.
منذ فترة طويلة ما عادت تشارك أم جورج قهوتها الصباحية، وبالمقابل لم تعد أم جورج تدق بابها كلما عادت من تسوقها لتعرض عليها ما اشترته، وتنصحها بمحلات وبضائع؛ "غير شكل عن السوق كله".
أقنعت نفسها بأن دوام الحال من المحال، فكل شيء تغير، حتى القهوة والصباح الخالي من القلق، ولكنها ضمناً تعرف أن الحقيقة في مكان آخر، وأن شرخاً حدث بينهما دون ارادتهما، أودى بهما إلى تلك الجفوة.
نحيب أم جورج كقطة فقدت جرائها. يمزق الهواء. ينحت بشراسة في مخاوفها. مات جورج.
بيدين مبلولتين غطت بوشاحها الرمادي شعرها الرمادي. انعكس الرماد داخل عينيها الصغيرتين.
أطلت من فرجة الباب. واجهت ظهر عسكري بزيه الرسمي مطأطئ الرأس، وبين يديه ورقة يمدها، وتأبى جارتها استلامها. كادت أن تجتاز المسافة القليلة بين البابين لتنضم إلى العويل. ترددت. قدماها تسمرتا حيث هما عند العتبة.
..........
صباحها الذي باشرته اليوم بقلب مقبوض كان باهتاً ثقيلاً، لا تميز تاريخه، فهو ليس إلا ورقة في روزنامة الغياب، حاصرها الضوء فاستيقظت، لم تنهض مباشرة، فأطرافها لا تستجيب لها، وذهنها بليد.
حملقت في السقف. دلكت ببطء أصابعها المتورمة، ذراعيها المتيبسين، كتفيها المتشنجين، وذلك الألم المقيم في كل جزء من جسمها المنهك، ثم قررت أخيراً النهوض قبل أن يلمحها زوجها ويصب لومه فوق رأسها. كان يغضب لأنها تنام فوق سجادة على الأرض.
ارحمي نفسك يا امرأة، أنت تقتلين نفسك دون فائدة.. تزيدين بلاءنا. ألا يكفينا مصابنا.. و....
لا تسمع باقي ما يقوله. لماذا لا يتركها لشأنها، كما تتركه هي لشأنه..!
تريد أن ترد عليه، بأن عاصم الذي لا تعرف عنه خبراً يرقد فوق البلاط، لكنها تصمت. لا طاقة لها على الكلام.
جلست عند حافة سريره، ودست قدميها الباردتين في حذائه الملطخ ببقعة زيت امتصها جلد الشامواه البني الخفيف عند زاوية الفردة اليمنى. اطمأنت إلى عدد الثنيات وما يشبه رسم الأصابع الذي يتركه الاستعمال المستمر. انحنت تلمسها، أزالت عنها ما يتهيأ لها أنه غبار أو نسيان.
منذ غاب ابنها أي قبل ثلاث سنوات وأربعة أشهر وأسبوع وهي ملتزمة بعادتها الغريبة؛ تغفو بمحاذاة سريره، وكل صباح تُخرج حذاءه وتقيسه؛ مع ارتفاع السكر وتورم قدميها يكاد يصبح ملائماً.
ماما لماذا لا تتخلصين من كل هذه الكراكيب؟.
سهير التي استقرت في غازي عينتاب دأبت على السخرية منها، فهي تحتفظ بأغراضهم حتى تلك التي لن تُستعمل قط. ابنها عاصم أكثر تفهماً، يمسح رأسها بحنان، ويضمها إلى صدره.
الحضن يا ماما أسرع طريقة لامتصاص الطاقة السلبية.
قبل أن تختنق بين ساعديه القويين يفلتها، فتنفجر ضاحكة.
تعيد الحذاء إلى مكانه، وتقطيبة جبينها تزداد عمقاً، ثم تسرع إلى المطبخ لتعد البيض المخفوق نصف نيء وشرائح الخبز المحمصة ومربى الورد الذي لا ينفع الإفطار بدونه مع الجبنة والحليب الساخن.
تكاد تنادي الجميع، كلاً باسمه، لكنها تصمت.
تنشق الأرض ويظهر أبو عاصم، فتجفل. كان من عادته أن يتأفف من تلك الأصناف "الغنوجة". يطالب بحقه في أن "يتزهرم" طبقاً من الفول. تغيّر. يبدو أقل عصبية وأكثر هدوءاً. يسحب كرسيه، ويجلس قبالتها صامتاً، لا يطلب ما يحب، لا يتأفف، ولا "ينقّ".
لاحظت وجنتيه الغائرتين؛ إنه يفقد وزنه ليلة بعد ليلة. ينهض ويملأ الركوة النحاسية ماء ليصنع القهوة. يغرد عصفور وقف عند النافذة، فتتذكر أن عليها سقاية الحديقة.
لم تكن الساعة المعلقة على الجدار قد أعلنت الثامنة حين انسحب أبو عاصم قبل أن ينهي قهوته، ودون أن يتناول لقمة واحدة. زر قميصه حتى العروة الأخيرة، وخرج إلى دوامة المتقاعدين اليومية. صار يغيب أكثر مما كان يفعل حين كان يداوم. مؤخراً قرر إيكال قضايا مكتب المحاماة الذي يملكه إلى ابن أخيه. سمعت الباب يغلق، وتمتمة ربما تكون: بخاطرك.
لم يتسن لها التأكد.!
اكتفت بكأس الشاي، وقطعة خبز صغيرة لتتناول أدويتها. لماذا تنهك نفسها بتحضير الافطار اليومي لأولاد لا يظهرون!
دخلت الصالة بدت لها مضيئة.. مرتبة.. مهجورة.. وقبيحة، كما لو كانت مصابة بالبهاق. مررت اصبعيها السبابة والوسطى فوق رف الكتب. حتى أنت أيها الغبار!
خرجت إلى الحديقة. سقت الياسمينة والدفلة وما بقي من عطر الليل والمكحلة، والفتنة. رأت رتلاً من النمل يتجه نحو مستعمرته داخل ثقب في التربة الجافة؛ بعضهم يحمل القشور، وبعضهم يستكشف الطريق. خافت أن تُعكر برشاش المياه صفو مسارهم. أغلقت الصنبور. للنمل أم واحدة هي الملكة؛ ترى هل تستطيع تمييزها بينهم.!
تصفر الأوراق وتتعفن الجذور. ستطلب من البستاني أن يرش المبيدات ويسمد الأرض. سبق أن حذرها: نبات مصاب واحد كاف لنقل العدوى.
تسمع صوت عاصم في رأسها يقول ضاحكاً كلما رآها غارقة بين النباتات الخضراء: الأم مدرسة. تقاطعه سهير: الأم حديقة...
يقطع سرحانها صوت جارتها:
-يسعد صباحك.
لا ترفع رأسها، فلم تعد مستعدة لسماع السؤال ذاته: " هل من خبر عن عاصم؟ "
ولا تكرار التعليق المعتاد: "الله يفك أسره، ويرجعلك سهير بالسلامة"
ما من خبر. طرقوا أبواب المسؤولين.. أصحاب الواسطة.. الأذرع الخفية.. رجال أعمال.. أبدوا استعدادهم لدفع أي مبلغ مهما كان، لكن الجواب يبقى في ذهنها، ولا تنطقه.
صارت تشمئز من شفقة تستدر فيها الرغبة في البكاء. الجميع يقابلها بحنان فائض، حتى أبو عاصم تجد في عينيه تلك النظرة أحياناً قبل أن يعاجل بمداراتها.
لمحت أم جورج تنشر غسيلها. المسكينة ودعت ابنها الذي التحق بالخدمة العسكرية الالزامية.
"كتيبته تطارد العصابات المسلحة" قالت.
القلق على جورج يجعل أمه تتفرغ للمزيد من أعمال التنظيف، ثم تخلد إلى سريرها مهدودة.
يتناقص عدد شباب الحي باضطراد ملحوظ؛ سافر بعضهم، واعتقل بعضهم، وقتل بعضهم، وحمل بعضهم بندقية الحرب.
هربت سهير.. كانت في مكتبة الجامعة تقرأ "الاختيار الديمقراطي في سوريا" نبهها أصدقاؤها بأن عناصر من الأمن يتحرون عنها. اجتازت الحدود التركية، أما عاصم فألقيّ القبض عليه أثناء مشاركته بالمظاهرات. وجهت إليه تهم عدة؛ زعزعة أمن الوطن.. رفع شعارات غير مرغوب بها.. مخالفة الأنظمة.. التحريض على الإرهاب.
نهرتهما: ما خصنا.. خلونا بحالنا.
تزقزق ضحكتاهما في أذنيها.
لم تفهم تلهفهما إلى الحرية، فحريتها تقتصر على وجودهما حولها.
خرجا ولم يعودا. ابتلعهما ليل طويل لا ينتهي. لا خبر يُطمئن.. لا أمل يُرتجى.
تستمد ما بقي من قوتها من تكرار الطقوس اليومية العائلية. تحتفظ بالصحون والصور والعلب الفارغة وأكياس النايلون والشراشف التي تعرقا عليها، وتقعر الوسادة كما تركاها، وحذاء عاصم الملطخ ببقعة زيت، وتباشر بإعداد الغداء.
تقشر البندورة، تذرف دمعاً أكثر مما يسببه فرم البصل عادة، حين سمعت عويل جارتها أم جورج في المنزل المقابل.
ملاحظة: وردت الأسماء في القصة بمحض الصدفة، ويستطيع القارئ أن يغيرها دون أن يؤثر ذلك على الحدث، فجورج قد يكون أحمد، وعاصم قد يكون علي.. الخ.. الخ.
سوزان خواتمي
قاصّة وكاتبة سورية