سنندحر مؤقّتاً


 

 

 

 

هذه الموجة الأولى والتي ستمضي بنتائج عالمية الأثر، أعتقد أنها ستلتهم على الأقل عشر سنواتٍ من عمر شعوب المنطقة وتعيدها للوراء اجتماعياً وعمرانياً قروناً طويلة، كفاتورة حتميّة للسكوت قرناً كاملا على الانحدار المتسلسل الذي انزلقنا إليه وثلاثة أجيال سابقة بعيون مفتوحة.

 هذه الموجة التراكمية العارمة تكسّرت على صخور التواطؤ العالمي المتماسكة رغم رعبهِ وتخلخل جذور مشاريعه، بمباغتتها وصبر الشعوب وإرادتهم العنيدة للانفكاك عن مشيمة المشروع الاستعماري ومخالبه المعدنية من الاستبداد المحلي والإقليمي.

سيعقبها موجات أكثر وعياً ونضوجاً معرفياً، وتماسكاً ووضوح رؤية، وتضامناً فعلياً على مساحات المشرق، وسيرافق الموجات التالية ويواكبها تغيير حتمي على صعيدٍ شعبي عالمي، بمواجهة تغوّل رأس المال وجشع كارتلات التحكّم الخفيّة بكل تفاصيل الحياة اليومية للبشر.

إنّ تماسك سلطة البنوك وسيطرتها على مصير شعوب الأرض قاطبةً بزواج كنسيٍ أرثوذوكسي مزدوج مع ثقافة عصر الآلة وقيمها، حرمنا من تضامن بقية الشعوب مع تطلعاتنا بسبب الإعلام الغربي الانتقائي الموجه والملجوم، وانشغال البشر بهمومهم اليومية الحياتية التي حولتهم لقطعان مُطأطئة مشغولة بغرائز البقاء والتميّز اليوميّة.

حينها ستتغير معالم النفس والقيم البشرية، والوجود القبيح القائم منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. إن التراكم المفجع يُنبئُ بأن المسألة أكبر من هزيمة مؤقتة لنا، وبأنّ ثوراتنا قد حطّمت القضبان وهدّت جدران الزنازين، وهزمت الخوف بلا رجعة، كشفت معدن حلف الطوائف الصدئ وتخندقه ضد أمـتـهِ وثقافتهِ، هتكت عورات الطغاة المحليين وعرّت مشاريع الاستنعاج الغربي، والأهم من كل هذا أنها أثبتت أن هذه أمة كاملة الدسم واحدة العزيمة والحلم، تمرض وتنحني للريح لكنها لا تنكسر أو تموت مهما تكاثرت عليها سكاكين بعض أبنائها وكل أعدائها، وكانت هذه برأيي أهم انجازات ثورات الربيع العربي.

هي معركة العرب مع مثبطات ماضيهم وقيود حاضرهم ليختطفوا مستقبلهم، ويصنعوه كما يجب ويستحقوا، إن مخلبي المأزق التاريخي الذي سلب هذه الأمة عوامل نهوضها هم أولا:

 

*النُخب المشرقيّة اليساريّة الكافرة بثقافتها، وانبهارها بسحر الغرب وانجازاته التقنيّة البرّاقة، وثراءه المنهوب أصلا من دماءِ شعوبهم، وإعجابها الطفولي بأشكال الإدارة السياسيّة الديمقراطية المزعومة شكلاً، والجوفاء الوحشية إن تعلّق الأمر بنهب الآخرين وتدميرهم لتسويغ نهبهم واستمرار رفاهيتهم.

* رجال الكهنوت الذين صنع منهم الغرب والاستبداد سلّماً مقدّساً ليرتقوا هم مصير الشعوب، ويقف رجال الكهنوت حرساً في أسفل السلم مُدججين بذرائع التحريم والتجريم والتدجين، لا يسمحون للعامةِ بارتقائه للوصول إلى الله، ولا لمغادرة حفرة التخلف والفقر والقهر.

وبالرغم من الإنجازات العظيمة التي حققها الربيع العربي، وبالرغم من مجانية وسائل التواصل والإعلام وتوفرها مع الكثير من العثرات والقصور، والتوجيه المريب له، لكن هناك عوامل مهمة جداً لم تكتمل وتتوفر لتدفع بالثورات للنهايات المنشودة:

* بقاء مجتمعات الخليج العربي معزولة عن تأثيرات الربيع العربي وهذا تمّ بترتيب سلطوي محكم، وبتوجيه غربي بالغ الخبث، أذكر، ومن تجربتي الشخصيّة في عامي الثورة الأولين في الرياض، الحجم المدهش من التعاطف والتضامن الشعبي مع ثورات الربيع العربي، والاندفاع الحماسي لدعم أي نشاط أو إغاثة بلا حدود، ولكن السلطات المحليّة تنبّهت لخطورة ترك الحبل على الغارب ، فدفعت بأيدي ناعمة بمتمشيخين سوريين متسلقين ومرتبطين بأجهزتهم، وسمحت لهم وحدهم بالسيطرة على كل ما من شأنه التأثير الإيجابي على الثورة السوريّة، وبالمقابل عملت على التضييق على الشرفاء الذين رفضوا العمل تحت إمرة أجهزة استخباراتهم ما دفع الكثير منهم للإحجام ن المتابعة، كما تعرض الكثيرون للترحيل أو الاعتقال بذرائع شتّى.

وأذكر جانباً مهماً لم ينتبه له كثيرون، حيث اندلاع الثورة الشعبية العارمة في اليمن، بما يشكل من تهديد خطير بعيد المدى لعروش ممالك الرمال النفطيّة النتنة، وترافق هذا مع طموحات عجيان زايد - مطاريد اليمن - والقارئ لتاريخ الطغاة يفهم جيداً أن أفضل وسائل إبعاد شبح ثورة شعبية محتملة هو بخلق تهديد خارجي وإشغال المواطنين به - وهذا ما تمّ بالضبط حين قدموا كل الدعم لعفّاش - علي عبدالله صالح - ، وكنت بالمصادفة بذات المشفى الذي أسعف له بعد إحراقه ، ولمدة يوم كامل فصل جدار بين الجناح الذي يتعالج به وبين الغرفة التي كانت تتعالج بها زوجتي من السرطان رحمها الله وغفر لها ولنا - حتى تدبروا لها غرفة وأخلوا الجناح كاملا ، وتعرضت كثيراً للتفتيش الدقيق وللتحقيق حين الدخول بكل مرة للجناح من الحرس الملكي الخاص، والحرس الرئاسي اليمني المدجج بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا.

وما الحرب مع الحوثيون إلّا هروب للأمام وإشغال للمواطنين بتهديد خارجي مزعوم، والسعي لتدمير اليمن وتفتيته وإفشال ثورته، وهذا ما تمًّ لهم في سورية ومصر وليبيا وسيكون في لبنان والعراق والأحواز وإيران والأيام والثورات سجال.

كل هذا كان في سياق كبح جماح الشعوب بمسكنات مؤقتة دون حلول جذرية لمصائب الاستبداد وتفكيك آلياته.

ولكن ودون أن ينتبهوا أو يحسنوا قراءة التاريخ وفهم هذه الأمة وشعوبها

فما ارتكبه ويرتكبه -عجيان زايد -وعجي سلمان وبقية جوقة مستنقع الخبث الآسن في مسقط والدوحة والبحرين، من تآمر وقح، وتمويل قذر لفرملة الثورات، وفكّ الارتباط مع ثقافة الأمة، والانحدار بالمجتمعات نحو الانحلال الاجتماعي، لسلب الشعوب أدوات مهمة من أدوات التغيير على صعيد تحريك دوائر غدير الوعي والرفض لديها، ما سيراكم هذا الرفض ويدفع بالخط البياني للوعي نحو التأجج بما يدفع الشعوب الثائرة للتوحّد، كل هذه العوامل ستتضافر لتؤسس انفجاراً عارماً وشاملا للأمّة شاؤوا أم أبو.

 

 

 

محمد صالح عويد

شاعر وكاتب سوري

 
Whatsapp